أمد/  قصة قصيرة 

بينما كنت منهمكًا في معالجة المرضى في عيادتي في هولير، أخبرتني السكرتيرة بوجود عائلة مكوَّنة من عدة أشخاص في غرفة الانتظار. وأفادوا بأنهم أصدقائي وقادمون من ألمانيا. استغربت قليلًا، إذ لم يخبرني أحد بذلك، خاصة وأن معظم مراجعي العيادة يأتون بمواعيد مسبقة.

أنهيت معالجة المريض الذي كان بين يدي، وما هي إلا لحظات حتى دخلتْ العائلة بخطوات متسارعة ولهفة واضحة، وألقوا عليّ التحية بنبرة دافئة. وتقدّم الرجل نحوي وعانقني بحرارة، فأيقنت أن هناك معرفة قديمة تربطنا، غير أن ذاكرتي خانتني في تلك اللحظة.

حينها بادرتْ زوجتُه بنبرة ممزوجة بالدهشة قائلة: “دكتور فاضل،  ألم تتذكرنا؟”

مرّت لحظة صمت بيننا، كما لو أن الزمن توقف. احمرّ وجهي وتلعثم لساني من شدّة الخجل، فحاولت أن أستجمع ذاكرتي على عجل. وبعد لحظة من التمعّن في ملامحهم، تذكّرتهم أخيرًا، فتملكني شعور عارم بالدهشة والحنين.

اعتذرت لهم موضحًا أنّ ملامحهم قد تغيّرت بمرور السنين، ثم ابتسمت قائلاً:

“أهلًا وسهلًا، أبو هڤال! أم هڤال، والله زمان! مرحبًا بكم جميعًا، كيف أنساكم؟ لكن حضوركم المفاجئ أربكني، فقد مضى زمن طويل على آخر لقاء بيننا.”

تبادَلنا التحية فردًا فردًا وسط ابتسامات هادئة؛ بدءًا بوالد هڤال وزوجته، ومرورًا بابنتهما رشا وزوجها عمار، وانتهاءً بزوجة ابنهما هڤال وطفلهما الصغير الذي رفع يده مرحّبًا بي ببراءة مطلقة. عندها غمرني دفء لم أذقه منذ زمن طويل، وكأنّ السنوات لم تفرّق بيننا يومًا.

                              *   *  *

هذه العائلة كانت من مرضاي في مدينة قامشلو. تعرّض ابنهم البكر، هڤال، لحادث سير أفقده العديد من أسنانه. أتذكر ذلك اليوم جيدًا؛ كانت ليلة ممطرة، تخللها برق ورعد هَزَّا سكون الليل، وسط طقسٍ شديد البرودة، بينما كانت حبات المطر تتساقط بغزارة كأنها دموع السماء، تنهمر على ذلك الشاب الخلوق، الذي حمله أهله متألمين إلى المستشفى أولًا للاطمئنان عليه، ثم جاءوا به إلى عيادتي.

كان منظره مؤثرًا جدًا، وعيناه تعكسان مزيجًا من الألم والقلق. سارعتُ إلى مساعدته للجلوس على الكرسي، بينما كان صوت المطر على النوافذ يتداخل مع نبض قلبي المتسارع متأثرًا بحالته.

بادرتُ فورًا بعلاج أسنانه بشكل إسعافي، وبقيت معهم حتى وقت متأخر من الليل أخفف عنهم وطأة الصدمة وأطمئن على وضعه. وبعد الانتهاء من معالجته، بدأ توترهم وخوفهم يتلاشى تدريجيًا، واستعادوا هدوءهم وتوازنهم.

بعد ذلك، استمر هڤال في مراجعة العيادة على مدى أشهر لاستكمال المعالجات اللازمة، حتى استعاد ابتسامته الجميلة. ومنذ ذلك الحين توطّدت علاقتنا بشكل ودي، وكان والده يحيّيني باحترام في كل لقاء، سواء في شوارع (قامشلو)، أو في المناسبات الاجتماعية. ولم تقتصر العلاقة على التحية فحسب، بل كان يشجّع معارفه وأصدقاءه على مراجعة عيادتي، مؤكدًا لهم أنني الطبيب الذي يثق به.

وتطوّرت العلاقة حتى أنَّه، ذات يوم، أصرّ على أن أكون ضمن الجاه المتوجّه لطلب يد عروس ابنه، وعرّفني على جميع أفراد عائلته بصفتي “طبيب العائلة”. بعد ذلك، سافرتُ أنا إلى هولير، وهم سافروا إلى ألمانيا، ومع الأسف انقطع التواصل بيننا.

                              *   *  *

والد هڤال رجلٌ طويل القامة، يتسم بكاريزما واضحة وأناقة لافتة، وهو معروف في المدينة كمهندس ناجح في مجال المقاولات. أمّا والدته، الأقصر قامة منه، فتتميز بلباقة لسانها ورجاحة عقلها، وتظهر خبرتها الاجتماعية في كل حديث تخوضه، ويكسوها دائمًا طابع من الهيبة والوقار، وتعمل معلمة في إحدى مدارس المدينة.

ولديهم الابن البكر هڤال، الذي كان من المتفوقين في المدرسة، وكان مثالًا للأدب واللطف؛ كان يجلس بهدوء في غرفة الانتظار دون تذمّر، وأحيانًا يتنازل عن دوره لبعض المرضى من كبار السن، وكأن قلبه أوسع من أي كلمات شكر يمكن أن تُقال. وكنت أبادله الاحترام ذاته، وكان شعور العائلة بذلك يلمع في عيونهم وابتساماتهم، كما لو كانوا يقرّون بأن هڤال جوهرة حقيقية بين البشر.

أما ابنتهما رشا، الأصغر سنًا، فكانت ترافقهم أحيانًا، وتملأ المكان بحيوية الطفولة وبراءتها العذبة، مضيفةً للعائلة جوًّا من المرح والدفء. وبدا لي أنهم عائلة متكاملة، تعيش حياتها بشكل طبيعي، بعيدًا عن أي تصنّع أو مظاهر زائفة.

                              *   *  *          

لن أخفِ عليكم أنني في البداية لم أتعرف عليهم بسبب التغير الجذري في ملامحهم؛ فقد بدا ظهر والد هڤال مقوسًا قليلًا، وتسَلّل الشيب إلى شعره، وبدأت التجاعيد ترسم خيوطها على وجهه. أمّا زوجته فكان يكسو رأسها وشاح خفيف، وترتدي نظارة طبية على وجهها، على عكس ما اعتدت رؤيتها سابقًا.

بعد الترحيب، بدأت بالكشف سريريًا على أسنان والد هڤال في عيادتي بهولير، لكن للأسف صُدمت لفقدانه معظم أسنانه، ولم تكن زوجته في حال أفضل. شخصت حالتهما بأنهما بحاجة إلى زرع الأسنان حصرًا، وشرحت لهما خطوات ذلك والمدة الزمنية اللازمة، وأنهما بحاجة قبل ذلك إلى إجراء أشعة وتحاليل طبية معيّنة، فوافقا على كل شيء دون نقاش.

تأكدت حينها أنهما قد حسمَا أمرهما قبل القدوم إليّ، واختارا أن تكون معالجتهما عندي. سألتُهما عن سبب هذا الإهمال الطويل؟ فَتَحجّجا بأن العملية مكلفة جدًا في ألمانيا. واستفسرت عن سبب عدم تواصلهما معي قبل المجيء، فبرّرا أن الزيارة جاءت بشكل فجائي… غير أن أعينهما كانت تخفي حكاية أخرى، أثقل من الكلمات… حكاية حزن دفين.

وفي سياق الحديث، سألتهم عن هڤال، فما إن لفظت اسمه حتى خيّم الصمت على المكان، كما لو أن سؤالي وقع عليهم كالصاعقة. تغيّرتْ ملامح وجوههم وتبدّلتْ نبرات أصواتهم، وتلعثم لسان الرجل فيما اغرورقت عيناه بالدموع. فتسلّل الخوف إلى قلبي، وأيقنت أنّ أمرًا جللًا قد أصاب الابن.

وبلا مقدمات، قالت والدته بصوت متكسّر:

“هڤال… مات.”

شعرتُ برعشةٍ تسري في جسدي، فتجمّدت في مكاني كمن شُلّت حواسه أمام وقع الصدمة. اهتزّت أرض العيادة تحت قدميّ، كأن زلزالًا عنيفًا ضرب المكان فجأة.

                              *   *  *

لم أصدق ما سمعته، وانهمرتْ دموعي، كأن جزءًا مني قد رحل في تلك اللحظة. كيف؟ مستحيل… غير معقول… كنت أتحدث وأنا فاقدٌ لصوابي. ثم جاء صوتها منكسراً، مثقّلًا بالحزن، يخترق صمت المكان كسهمٍ يخترق القلب:

“للأسف… فقدناه أثناء رحلتنا إلى ألمانيا…”

صمتت قليلاً، ثم أضافت بصوت يقطر ألمًا: غرق في البحر، بعدما داهمت موجة عاتية زورقنا، أنقذ شقيقته رشا من الغرق، فغرق هو… وانتشلوا جثته بعد عدة أيام.

قلتُ في سرّي: “الآن فهمتُ الإجابة عن كلّ الأسئلة التي كانت تراودني أثناء حديثهم معي، وأدركتُ سبب التغيير الجذري في ملامحهم، ممّا حال دون تعرّفي عليهم من النظرة الأولى. وبدلًا من أن أواسيهم، صاروا هم من يواسونني ويخفّفون عنّي ثِقَل الصدمة، بعدما كانوا هم محور الحكاية.”

                                     تمَّت    

أربيل  20 9 2025

شاركها.