أمد/ يكتمل اليوم عامان كاملان على اندلاع حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
هذه الحرب لم تكن نزاعًا مسلحًا تقليديًا، بل كانت حملة تدمير ممنهجة استهدفت المدنيين والبنية التحتية، وحوّلت غزة إلى ساحة كارثة إنسانية غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين.
على مدار العامين، انكشف الوجه الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي أمام شعوب العالم، وظهر فشل مجلس الأمن الدولي في حماية المدنيين، في ظل الدعم العسكري والسياسي الهائل الذي قدمته الولايات المتحدة وعدة دول غربية لإسرائيل.
غير أنّ اتضاح حجم الجرائم وبشاعتها، والحراك الشعبي المتصاعد في أوروبا وأمريكا الشمالية، دفع منذ أشهر بعض الحكومات الغربية إلى مراجعة سياساتها التي كانت منحازة بالكامل لإسرائيل.
*الإطار القانوني للإبادة الجماعية*
تنص اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 في مادتها الثانية على أنّ الإبادة تتحقق بارتكاب أفعال “بنية تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية أو عرقية كليًا أو جزئيًا”، مثل القتل الجماعي، وإلحاق الأذى الجسدي أو النفسي، وفرض ظروف حياة تؤدي إلى الهلاك المادي للجماعة.
كما تُلزم المادة الأولى من الاتفاقية الدول الأطراف بـ منع الإبادة والمعاقبة عليها، وهو التزام غير قابل للتنصل.
إلى جانب ذلك، تحظر اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية استهداف المدنيين والمستشفيات واستخدام التجويع كسلاح حرب.
وعليه، فإن الممارسات الإسرائيلية من قصف مستشفيات وأحياء سكنية، وحصار شامل أدى إلى موت المئات جوعًا وعطشًا، هي انتهاكات سافرة لهذه القواعد، وترقى إلى جريمة إبادة جماعية وفق نصوص القانون الدولي.
*التسلسل الزمني لعامين من الإبادة الجماعية*
شهدت حرب الإبادة الجماعية في غزة على مدار عامين محطات رئيسية توضح تدرج الجرائم وتفاقم الأزمة الدولية:
أكتوبر 2023: اندلاع الهجوم الإسرائيلي الشامل على قطاع غزة عقب أحداث 7 أكتوبر، واعتماد سياسة العقاب الجماعي عبر القصف الكثيف وقطع الكهرباء والماء والوقود.
نوفمبر ديسمبر 2023: اشتداد القصف وتدمير واسع للبنية التحتية المدنية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس ودور العبادة، وسط عجز مجلس الأمن عن إصدار قرار بوقف إطلاق النار بسبب استخدام الولايات المتحدة الفيتو.
يناير 2024: تقدّمت جنوب إفريقيا بدعوى أمام محكمة العدل الدولية (ICJ) تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية. وفي نهاية الشهر أمرت المحكمة إسرائيل باتخاذ تدابير عاجلة لمنع الإبادة، لكنّ إسرائيل تجاهلت هذه القرارات.
مايو 2024: أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
مارس يوليو 2024: تدهورت الأوضاع الإنسانية بشكل حاد، إذ انتشرت المجاعة في بعض مناطق غزة، وأُعلن عن وفيات بين الأطفال بسبب الجوع، بينما واصلت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى تقديم الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل.
أغسطس ديسمبر 2024: تصاعد الغضب الشعبي في الغرب، خصوصًا في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا والولايات المتحدة، حيث خرجت مظاهرات ضخمة تندد بالإبادة وتطالب بوقف الدعم العسكري لإسرائيل.
يناير أكتوبر 2025: بدأت بعض الدول الغربية، نتيجة الضغط الشعبي وفضائح الانتهاكات الموثقة، بمراجعة سياساتها، وأعلنت فرنسا وبريطانيا وهولندا قيودًا على تصدير السلاح إلى إسرائيل، بينما استمر الحراك الشعبي الأوروبي متضامنًا مع الفلسطينيين ورافضًا للحرب والتجويع.
7 أكتوبر 2025: اكتمال عامين كاملين على حرب الإبادة الجماعية في غزة دون توقف للعمليات العسكرية أو محاسبة للمتورطين، لكن مع ازدياد عزلة إسرائيل سياسيًا وتراجع الدعم الغربي لها مقارنة ببداية الحرب.
*حصيلة عامين من الجرائم الممنهجة*
بحسب بيانات الأمم المتحدة (OCHA) وتقارير منظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية:
أكثر من 67,000 شهيد، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن.
أكثر من 170,000 جريح، بينهم ما يزيد عن 10,000 بُترت أطرافهم.
نحو 20,000 شخص مفقود، يُعتقد أن كثيرين منهم تحت الأنقاض أو في المعتقلات.
انهيار شبه كامل للقطاع الصحي وتدمير مستشفيات رئيسية مثل الشفاء والقدس وناصر.
تدمير آلاف المدارس والجامعات ودور العبادة ومراكز الثقافة والبنية التحتية الأساسية.
وفاة ما لا يقل عن 340 شخصًا جوعًا بسبب الحصار ومنع إدخال الغذاء والدواء والوقود.
هذه الأرقام تؤكد أنّ الحرب استهدفت مقومات الحياة الجماعية للفلسطينيين في غزة، وليس أهدافًا عسكرية فقط.
*مجلس الأمن الدولي وفشل حفظ الأمن والسلم*
ينص ميثاق الأمم المتحدة في المادة 24 على أن مجلس الأمن يتحمل المسؤولية الرئيسية عن حفظ الأمن والسلم الدوليين.
لكنّ المجلس عجز عن القيام بواجبه بسبب استخدام الولايات المتحدة الفيتو سبع مرات لإسقاط مشاريع قرارات دعت إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات.
هذا التعطيل كشف اختلال توازن القوى في مجلس الأمن وفضح ازدواجية المعايير، وأتاح لإسرائيل مواصلة الإبادة دون خشية من تدخل دولي ملزم.
*المحكمة الجنائية الدولية ومذكرات الاعتقال*
في مايو/أيار 2024 أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، بما في ذلك استهداف المدنيين والتجويع كوسيلة حرب وتدمير المرافق الصحية والتعليمية.
لكنّ عددًا من الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، بما فيها دول أوروبية بارزة، لم تلتزم بواجبها القانوني في التعاون مع المحكمة وتوقيف المتهمين حال دخولهم أراضيها.
هذا الإخفاق يعكس ازدواجية المعايير في إنفاذ العدالة الدولية، ويُظهر أنّ الإرادة السياسية ما تزال تعيق فعالية النظام القضائي الجنائي الدولي.
وقد شكّل هذا التجاهل ضربة لجهود مكافحة الإفلات من العقاب، وأكد أنّ فشل المجتمع الدولي في وقف الإبادة لم يقتصر على تعطيل مجلس الأمن، بل امتد إلى عرقلة آليات العدالة الدولية نفسها.
*الدعم العسكري والغطاء السياسي الغربي*
لم يكن الدعم لإسرائيل مقتصرًا على الولايات المتحدة فحسب، بل شاركت عدة دول غربية وأوروبية في تقديم الدعم العسكري أو اللوجستي خلال مراحل الحرب الأولى.
غير أن اتساع رقعة المظاهرات الشعبية في العواصم الغربية خلال عام 2024، واستمرار توثيق الجرائم عبر الإعلام المستقل ووسائل التواصل الاجتماعي، دفع بعض الحكومات الغربية إلى مراجعة سياساتها:
في فرنسا وبريطانيا وهولندا وإسبانيا، تصاعدت الأصوات السياسية المطالبة بوقف تصدير السلاح لإسرائيل.
في برلين ومدريد ولندن وباريس، خرجت حشود ضخمة في مظاهرات أسبوعية مطالبة بوقف الإبادة ورافضة لقتل الأطفال وتجويع المدنيين.
واجهت الحكومات الغربية ضغوطًا شعبية وبرلمانية متزايدة أجبرتها على تعديل خطابها السياسي ومراجعة بعض سياساتها الداعمة للحرب.
هذا التحول كشف أنّ الرأي العام العالمي بدأ يلعب دورًا مؤثرًا في إعادة تشكيل المواقف الرسمية حيال الجرائم الإسرائيلية.
*الأهداف الاستراتيجية للإبادة*
تشير التحليلات الحقوقية والسياسية إلى أنّ إسرائيل هدفت عبر هذه الحرب إلى:
1. جعل غزة غير صالحة للحياة البشرية عبر التدمير الممنهج للمساكن والبنية التحتية.
2. دفع السكان الفلسطينيين إلى النزوح القسري خارج القطاع.
3. إنهاء أي إمكانية لوجود وطني فلسطيني مستقل في غزة.
ويُعدّ هذا النوع من السياسات تجسيدًا لما تصفه المادة الثانية (ج) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948م بأنه “تعريض جماعة لظروف حياة يُراد بها تدميرها كليًا أو جزئيًا”.
*الأبعاد الإنسانية والثقافية*
خلفت حرب الإبادة آثارًا إنسانية وثقافية عميقة:
تشريد مئات آلاف الأسر وتحولها إلى لاجئين داخليين.
جيل كامل من الأطفال فقد ذويه أو حُرم من التعليم.
انهيار شبه كامل للقطاع الصحي في ظل نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية.
تدمير البنية التعليمية والثقافية، بما في ذلك المدارس والجامعات ودور العبادة والمراكز المجتمعية، ما شكل اعتداءً مباشرًا على الهوية الثقافية الفلسطينية.
*فشل النظام الدولي وضرورة المساءلة*
إن اكتمال عامين على حرب الإبادة الجماعية في غزة يكشف أنّ القانون الدولي بلا إرادة سياسية يظل عاجزًا عن حماية المدنيين.
فشل المجتمع الدولي، وبخاصة مجلس الأمن، في وقف الإبادة أو محاسبة مرتكبيها يشجع على تكرار الجرائم ويقوض أسس النظام الدولي القائم على القواعد.
هناك حاجة ملحّة إلى:
تحقيق دولي مستقل وشفاف بإشراف الأمم المتحدة لتوثيق الجرائم ومحاسبة المسؤولين.
دعم المحكمة الجنائية الدولية (ICC) لتقديم القادة الإسرائيليين وداعميهم إلى العدالة.
إصلاح منظومة مجلس الأمن الدولي لضمان عدم تعطيله عند وقوع جرائم إبادة جماعية.
تمثل حرب الإبادة الجماعية ضد غزة وصمة عار أخلاقية وسياسية على جبين المجتمع الدولي، خاصة مع مرور عامين كاملين دون توقف للجرائم أو إنصاف للضحايا.
إنّ تقاعس المؤسسات الدولية عن حماية المدنيين وازدواجية المعايير في التعامل مع حقوق الشعوب الضعيفة يهددان فكرة الأمن الجماعي التي تأسست عليها الأمم المتحدة.
لن يُذكر هذا الصراع فقط ككارثة إنسانية غير مسبوقة، بل أيضًا كدليل صارخ على عجز النظام الدولي عن وقف الإبادة رغم وضوح الأدلة، وهو ما يجعل من السعي لتحقيق العدالة والمحاسبة ضرورة تاريخية وأخلاقية عاجلة.