أمد/ تمر اليوم الذكرى الثانية لغزوة السابع من شحيبر، الذكرى التي تركت بصماتها العميقة والمأساوية على الشعب الفلسطيني، على أرض غزة التي تعانق البحر، حيث تختلط الأرض بالدم والدموع، ويترسخ الصمود في قلب المأساة. لقد تكبّد أهلنا في غزة خسائر فادحة تجاوزت كل الأرقام المعتادة: أكثر من 300 ألف شهيد وجريح وأسير ومفقود تحت الأنقاض، ومبتورو الأطراف، إضافةً إلى آلاف النازحين والمهجّرين، وتدمير نحو 85% من المباني والبنية التحتية. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جامدة، بل هي صفحات من مأساة يومية تهز ضمير الإنسانية، وتكشف حجم الألم والمعاناة التي يعيشها شعبنا في غزة، حيث تتحول الحياة إلى تحدٍ مستمر، ويصبح الصمود فعلاً بطولياً ينبض بالكرامة والعزة.
تأتي هذه الذكرى بعد موجة من الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية، عقب انعقاد مؤتمر تنفيذ حل الدولتين في 22 سبتمبر 2023، على هامش الدورة 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة، بقيادة سعوديةفرنسية، وبمشاركة الدول الوازنة والدائمة العضوية في مجلس الأمن، وفي مقدمتها بريطانيا. هذا الاعتراف الدولي يأتي في أعقاب ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية من قبل سلطات الاحتلال النازي، مع ظهور صور شلال الدم الناف من غزة، وهو امتداد لمأساة شعبنا الممتدة منذ بداية الاحتلال البريطاني، وتصريح بلفور عام 1917، مروراً بالانتداب الذي أقرته عصبة الأمم في 22 يوليو 1922، والنكبة عام 1948، وصولاً إلى أمّ النكبات المتمثلة في الغزوة التي لم تُحسب تبعاتها، والتي لم يتذكّر أصحابها قول الله تعالى: “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” صدق الله العظيم.
وفي الوقت نفسه، أعلن أصحاب الغزوة موافقتهم على خطة “سيد البيت الأبيض”، اللاهث وراء جائزة نوبل للسلام، وأصدروا بيان موافقتهم على وقف المقتلة وإطلاق سراح الأسرى، متضمناً محاولة إيجاد موطئ قدم سياسي في الساحة الفلسطينية في اليوم التالي لانقشاع غبار العدوان، رغم رفض الشارع الفلسطيني، خاصة في غزة، والمجتمع الدولي لهذه المحاولة في الوقت الراهن على الأقل. ورغم ذلك، لا يستطيع أحد تجاهل مكانهم في النسيج الوطني الفلسطيني، ولم تغب بصمة “أبو البيشو” عن صياغة البيان.
وتتزامن هذه الذكرى مع إرهاصات غزوة داخلية، بعد أن صمتت المدافع، تقودها بعض المليشيات المسلحة التي تتداخل خلفياتها: بعضها مدعوم من الاحتلال، وبعضها من أصحاب الغزوة أنفسهم، وإن لم يُعلنوا ذلك. ووجود القوات الدولية لن يمنعها. لذا، يجب احتواء التحديات عبر أدوات دقيقة ومتعددة المستويات: سياسية وفصائلية وشعبية، تقوم على برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة التأهيل والإدماج، باعتبارها الركيزة الأساسية للسلم الأهلي والمجتمعي. كما ينبغي أن تأخذ العدالة الانتقالية مجراها الطبيعي لتكون درعاً حصيناً يحمي الحقوق ويضمن عدم تكرار الظلم والمعاناة.
الدرس الأبرز من هذه الذكرى هو أن المراجعة والمحاسبة مسؤولية جماعية تشمل الجميع دون استثناء، وليس أصحاب الغزوة فقط. كما أن بناء قوة ثقافية وسياسية رصينة ليس رفاهية، بل ضرورة استراتيجية ملحة لتوحيد المفاهيم والمصطلحات، وصياغة خطاب وسردية وطنية مشتركة، بعيداً عن التباينات الأيديولوجية، لتعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية. فالقوة الثقافية ليست مجرد أداة، بل سلاح استراتيجي يمتد تأثيره إلى عمق المجتمع، ويزيد من قدرتنا على الصمود والبقاء. فهي أعمق وأطول أثراً من القوة العسكرية، سواء كانت صلبة أو ناعمة، وهي التي تصنع من الكلمة صرحاً، ومن الفكر صموداً. وبالطبع هذا الأمر يتطلب تشكيل مجلس أعلى للقوة الثقافية، مبنياً على استراتيجيات ومعايير واضحة وقابلة للقياس، ليكون منبراً لتوجيه الطاقات، وموحداً للرؤية، ورافداً للهوية الوطنية، وسلاحاً استراتيجياً يضمن بقاء واستمرار المشروع الوطني، رغم كل محاولات التهميش والتشويه.
وفي ذكرى الغزوة، ورغم قوة المأساة، نوجّه تحية اعتزاز وتقدير لأهلنا في غزة المكلومة: أنتم فخرنا وأيقونة صمودنا. إن إصراركم على العيش بكرامة يجسّد الحقيقة الجوهرية للفلسطينيين أينما وجدوا: أن الهوية الوطنية الفلسطينية والثقافة الجمعية أقوى من كل المؤامرات. أنتم مدرسة تعلمنا أن التحدي الحقيقي ليس في البقاء فحسب، بل في أن ننهض معاً كشعب واحد، وأرض واحدة، وقيادة واحدة، بعزيمة لا تلين، وبقوة ثقافية تخلق مجتمعاً قادراً على مواجهة كل الأزمات وتحطيم كل المؤامرات.
كل عام وأنتم فخرنا وأيقونة الصمود وتاج الرأس