السودان وجرائم غسيل الأموال وفرص استعادة الأموال المنهوبة
✍️ عمر سيد أحمد أكتوبر 2025
أولًا: تعريف جريمة غسيل الأموال
تُعد جريمة غسيل الأموال من أخطر الجرائم الاقتصادية العالمية وأكثرها تعقيدًا، إذ تقوم على محاولة إخفاء المصدر غير المشروع للأموال المتحصلة من أنشطة غير قانونية مثل الفساد والاتجار بالمخدرات والتهريب وتمويل الإرهاب والنهب العام، وذلك من خلال إدخالها في الدورة الاقتصادية والمالية المشروعة بحيث تبدو وكأنها أموال نظيفة. وقد عرّفتها مجموعة العمل المالي (FATF) بأنها عملية تحويل أو نقل أو إخفاء العائدات الناتجة عن أنشطة إجرامية بهدف إضفاء المشروعية عليها وإخفاء أصلها الحقيقي. تمر عملية غسل الأموال عادة بثلاث مراحل متتابعة: تبدأ بالإيداع حيث تُدخل الأموال غير المشروعة إلى النظام المالي عبر البنوك أو عبر شراء الأصول كالذهب والعقارات، ثم مرحلة التغطية أو التمويه التي تتم فيها عمليات معقدة من التحويلات المصرفية أو استخدام الشركات الوهمية والحسابات الخارجية لإخفاء أثر الأموال، وأخيرًا مرحلة الدمج التي يعاد فيها إدخال هذه الأموال إلى الاقتصاد المشروع عبر استثمارات أو مشروعات تجارية لتصبح جزءًا من الدورة الاقتصادية الرسمية.
ثانيًا: الأطر والتشريعات الدولية لمكافحة غسيل الأموال
إدراكًا لخطورة هذه الجريمة العابرة للحدود، سعى المجتمع الدولي إلى وضع مجموعة من الأطر القانونية والمؤسسية لمكافحتها. فقد جاءت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (اتفاقية باليرمو لعام 2000) لتلزم الدول بتجريم غسل الأموال وتعزيز التعاون القضائي فيما بينها. كما شكّلت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC) لعام 2003 إطارًا شاملًا لتعقب واسترداد الأموال المنهوبة، ونصّت على آليات لتجميد الأصول واستردادها عبر التعاون الدولي. إلى جانب ذلك، أنشئت مجموعة العمل المالي (FATF) في عام 1989، وأصدرت أربعين توصية تعد المرجعية العالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وركزت على ضرورة تجريم هذه الجريمة داخليًا، وإنشاء وحدات استخبارات مالية وطنية، وتعزيز الرقابة على البنوك والتحويلات. كما برزت مبادرة استرداد الأصول المنهوبة (StAR) التي أطلقها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لدعم الدول النامية في ملاحقة الأصول المهربة، إضافة إلى التشريعات الإقليمية مثل توجيهات الاتحاد الأوروبي الخاصة بمكافحة غسل الأموال، واتفاقيات الاتحاد الأفريقي التي تسعى لتعزيز الشفافية والحد من التدفقات المالية غير المشروعة.
ثالثًا: حجم الجريمة عالميًا وتأثيرها
تُظهر تقديرات صندوق النقد الدولي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن حجم الأموال المغسولة سنويًا يتراوح بين اثنين وخمسة في المائة من الناتج العالمي، أي ما يعادل ما بين ثمانمائة مليار إلى تريليوني دولار سنويًا. أما البنك الدولي فيقدّر الأموال العامة المنهوبة من الدول النامية بما يتراوح بين تريليون إلى 1.6 تريليون دولار سنويًا، يسيطر مسؤولون نافذون في الأنظمة الديكتاتورية على ما بين عشرين وأربعين مليار دولار منها. وهذه الأرقام تكشف عن حجم الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي تمثلها هذه الجريمة، حيث تسهم في تقويض استقرار الأنظمة المالية وإضعاف ثقة الشعوب في مؤسسات الدولة.
رابعًا: التجربة السودانية بين الثورة والانقلاب والحرب
في السودان، شكّل الذهب القناة الأخطر لغسيل الأموال، إذ يُقدّر أن ما بين سبعين إلى ثمانين في المائة من الإنتاج السنوي يُهرّب عبر الحدود إلى مصر وتشاد وليبيا وصولًا إلى الإمارات، وهو ما جعل من المعدن النفيس أداة رئيسية لتبييض الأموال وتمويل الصراعات. عقب ثورة ديسمبر 2018، أُنشئت لجنة إزالة التمكين التي أعلنت عن استرداد أصول قُدّرت قيمتها بنحو 1.4 مليار دولار، شملت عقارات وحسابات مصرفية وشركات، غير أنّ هذه الجهود تعرضت لانتكاسة كبيرة بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي ألغى اللجنة وأعاد زمام المبادرة إلى شبكات الفساد. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، انهارت البنية التحتية المالية والرقابية بشكل شبه كامل، مما فتح الباب واسعًا أمام أنشطة التهريب وغسيل الأموال. وأكدت تقارير دولية مثل The Sentry وChatham House أن الإمارات لعبت دورًا محوريًا في استقبال الذهب السوداني وإعادة تدويره ضمن شبكات غسيل الأموال العابرة للحدود.
خامسًا: الأثر الاقتصادي والاجتماعي
انعكست جرائم غسيل الأموال على الاقتصاد والمجتمع السوداني بآثار كارثية واضحة، فقد أدت إلى تراجع الثقة في النظام المصرفي وتسببت في أضرار بالغة بمناخ الاستثمار وتشويه المنافسة بين الشركات. وأسهمت كذلك في اتساع الفوارق الاجتماعية وانتشار الفساد والجريمة المنظمة، إضافة إلى تدهور قيمة الجنيه السوداني نتيجة ضخ كميات كبيرة من الأموال غير المشروعة في الاقتصاد. وبهذا، لم تكن آثار الجريمة اقتصادية فحسب، بل طالت النسيج الاجتماعي وأضعفت قدرة الدولة على إدارة مواردها وسياساتها الاقتصادية.
سادسًا: استعادة الأموال المنهوبة
يمثل استرداد الأموال المنهوبة تحديًا عالميًا يتطلب تضافر الجهود الدولية. فقد نصت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على تخصيص فصل كامل لآليات استرداد الأصول، وهو ما جعلها المرجعية الأساسية للدول الساعية إلى استرجاع أموالها المهربة. كما أطلقت مبادرة استرداد الأصول المنهوبة (StAR) لدعم الدول النامية في مطاردة الأصول المهربة ومتابعة القضايا أمام المحاكم الدولية. وتقوم عملية الاسترداد على التعاون القضائي بين الدول، والذي يشمل تبادل المساعدة القانونية، وتجميد الأصول المشبوهة، ومصادرتها بناءً على أحكام قضائية. وتوضح التجارب الدولية حجم التعقيد، لكنها في الوقت ذاته تؤكد إمكانية النجاح. فقد تمكنت نيجيريا مثلًا من استعادة أكثر من 1.2 مليار دولار من أموال الجنرال ساني أباتشا المهربة في سويسرا، بينما نجحت الفلبين بعد عقدين من التقاضي في إعادة جزء من أموال الرئيس ماركوس. أما تونس ومصر فقد واجهتا تحديات هائلة بعد ثورات الربيع العربي، حيث أظهرت التجربة أن استرداد الأصول غالبًا ما يكون مسارًا طويلًا وشاقًا يتطلب صبرًا وتعاونًا واسعًا.
أما في السودان، فقد برزت لجنة إزالة التمكين (20192021) كأداة أساسية في محاولات استرداد الأموال المنهوبة، حيث أعلنت استعادة أصول تُقدّر بـ 1.4 مليار دولار. إلا أنّ هذه التجربة تعرضت لانتكاسة حادة بعد انقلاب 2021 الذي أطاح باللجنة وأعاد الكثير من الأصول إلى حيازة رموز النظام السابق. ومع اندلاع الحرب، تفاقم الوضع بشكل مأساوي إذ توسعت أنشطة التهريب وغسيل الأموال مستفيدة من غياب المؤسسات الرقابية والقضائية.
يواجه السودان عدة تحديات في مسار استرداد الأموال، أبرزها غياب مؤسسات قضائية مستقلة قادرة على إدارة هذا الملف، ونقص الخبرة الفنية في التحقيقات المالية وتتبع الأصول، فضلًا عن صعوبة إثبات الملكية في المحاكم الأجنبية، إضافة إلى الضغوط السياسية الداخلية والخارجية التي تعرقل إنفاذ القوانين. ورغم هذه التحديات، فإن فرص الاسترداد ما تزال قائمة إذا ما توفرت الإرادة السياسية وأُنشئت آليات قانونية مستقلة. يمكن للسودان أن يستفيد من إنشاء مفوضية قضائية دائمة تتمتع بالاستقلالية والصلاحيات الكاملة، وأن يُفعّل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ومبادرة StAR بالتعاون مع المجتمع الدولي. كما أن اعتماد آليات لتجميد الأصول المشبوهة بشكل فوري عبر البنوك العالمية، ورقمنة السجلات المالية والعقارية لحمايتها من التلاعب، يمثلان خطوات عملية يمكن أن تفتح الطريق أمام استعادة جزء معتبر من الأموال المنهوبة. ويُفترض أن تُخصص هذه الأموال المستردة في حسابات شفافة وموجهة إلى برامج إعادة الإعمار والتنمية، مما يسهم في إعادة بناء الدولة وترسيخ الثقة بين مؤسساتها والمجتمع.
إن استرداد الأموال ليس مجرد عملية قانونية أو مالية، بل هو معركة سياسية واقتصادية بامتياز تستهدف إعادة الاعتبار للدولة وبناء الثقة بينها وبين مواطنيها. وتظهر التجارب الدولية أن هذه العملية طويلة ومعقدة، لكنها قابلة للتحقيق متى ما توفرت الإرادة السياسية، وشُكّلت التحالفات الدولية، وتم توفير الغطاء القانوني المستقل.
خاتمة
إن قضية غسيل الأموال في السودان ليست مجرد ملف اقتصادي ضيق، بل هي معركة تمس مستقبل الدولة ذاتها. فالأموال المنهوبة لم تكن وسيلة للإثراء فحسب، وإنما تحولت إلى أداة مباشرة لتمويل الحرب وإطالة أمدها، وهو ما عمّق من معاناة المجتمع وأضعف من قدرة الاقتصاد الوطني على التعافي. ومع ذلك، فإن الأمل يظل قائمًا في أن يصبح استرداد هذه الأموال رافعة لإعادة بناء الدولة على أسس من الشفافية والعدالة، شريطة أن تتضافر جهود الإصلاح الداخلي مع الدعم الدولي وأن تُبنى المؤسسات القادرة على مواجهة هذه الجريمة المعقدة.
المصدر: صحيفة التغيير