توصلت جريدة هسبريس الإلكترونية بمقال جديد للدكتور عبد الله بوصوف، الخبير في العلوم الإنسانية، بعنوان: “جيل زيد بين الوحدة الوطنية والأطماع الجيوستراتيجية”، تناول فيه بالتحليل والقراءة الفكرية خلفيات الحراك الشبابي الذي عرفته بعض المدن المغربية خلال الأسابيع الأخيرة، وما أثاره من نقاش حول طبيعة هذا الجيل وتمثلاته، وعلاقته بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي تعرفها البلاد.

ويؤكد بوصوف، في مقاله، رفضه “تصنيف شباب المغرب ضمن رموز أو حروف مستوردة”، مشددًا على أن احتجاجاتهم السلمية تعبّر عن تفاعل وطني صحي مع قضايا اجتماعية مشروعة نصّ عليها الدستور، وليست امتدادًا لأي موجات خارجية أو رموز رقمية عابرة للثقافات. كما يربط الكاتب هذا الحراك الشبابي بسياقات جيوسياسية دقيقة، داعيًا إلى قراءته من زاوية الوحدة الوطنية، لا من منظور الإملاءات أو التوظيفات الخارجية.

نص المقال:

لا أحبذ أن أخندق شباب بلدي في مجرد حروف أو أرقام أو حتى ألوان؛ لأنني بهذا سأسيئ إلى احتجاجاتهم السلمية من أجل تحقيق مطالب اجتماعية عادلة بنص الدستور المغربي. كما لا أحبذ أن يشبه الإعلام الغربي شباب بلدي بشباب دول أخرى، ويصبغهم بألوان غير ألواننا وبأوصاف غير أوصافنا.

فما معنى أن تخرج بعض الأسماء خارج الحدود، بعضهم نال نوبل للسلام، في زحمة الأحداث لتصب الزيت على النار؟ وما معنى أن تهمس مواقع إعلامية في آذان شبابنا وتقنعهم بأنهم “جيل زيد”؟ لأنهم وبكل بساطة أكبر من كل الحروف ومن كل الأرقام والألوان.

يكفي أن يكونوا أحفاد الإدريسي والحسن الوزان وحسن العطار وآخرين كثيرين ممن قادوا العالم في مراحل مفصلية من التاريخ العالمي. فهل حملهم لهذا الاسم “جيل زيد”، مثلا، فيه قوة سحرية؟ ولماذا لا نعتبر أن خروج هؤلاء الشباب هو تفاعل صحي، ونضج من داخل جدران الوطن الواحد أو إحدى نتائج السرعتين بالمغرب؟ أو صرخة شبابية لتغيير سرعة تجويد الخدمات في قطاعي التعليم والصحة وغيرهما؟ لماذا لا نعتبر أن تلك الاحتجاجات هي صناعة داخلية وشان داخلي، وبالتالي لا حاجة لنا بأسماء لا تشبهننا ولا تعنينا؟

دعونا نقر بداية بضرورة الاهتمام بدرجات أكثر وأقوى بقطاعي التعليم والصحة، ودعونا نكون أكثر جرأة من الإعلام الغربي نفسه ونقر بالحاجة إلى إعادة النظر في الخريطة الصحية للبلاد وبالسياسات الخاصة بالتكوين والصناعة الدوائية، وبتجهيز المستشفيات والمختبرات الطبية ومراكز تحاقن الدم… إلخ. والأمر نفسه يقال عن قطاع التعليم، وبالتالي قطع الطريق على قطاع الطرق في القطاعين المهمين.

لقد عاش الشارع المغربي، طيلة السنوات السابقة، مسيرات مليونية في مناسبات عديدة، سواء تلك الخاصة بمدونة الأسرة أو قضية فلسطين وغزة وإضرابات الصحة والتعليم وقطاع العدل/ المحاماة… بمعنى أن ثقافة المسيرات والاحتجاجات والوقفات السلمية ليست حدثا غريبا أو فجائيا؛ بل هو داخل بالأساس في صلب المصطلحات المغربية وفي ثقافته. (بطبيعة الحال، فالمسيرات المقرونة بالعنف أو أعمال التخريب والسرقة والشغب مرفوضة وغير مقبولة أخلاقيا وقانونيا).. وعلى الرغم من أعدادها المليونية، فإن تلك الأبواق لم تكلف نفسها عناء الحديث عنها أو التعليق عليها…!

لكن من حقنا، وفي إطار مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير، أن نسرد بعض مساحات الاختلاف أو القراءة من زاوية أخرى… لا نهدف من خلالها تبرير أي من أعطاب السياسات العمومية في مجالات الصحة والتعليم والشغل، إذ يحسب للمحتجين من الشباب يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر شتنبر الفائت تحريك المياه الراكدة ودعوة الحكومة إلى ضرورة تقديم أجوبة قوية شافية تستجيب لكل انتظارات الشباب في الصحة والتعليم ومحاربة الفساد… من جهة. ومن ثم، ضرورة تبني الحكومة لسياسات تواصلية حديثة مع المواطن / الناخب؛ سقفها الشفافية والفعالية، والقطيعة مع المقاربة الانتظارية والتسويف.

إن هدفنا من اعتبار احتجاجات الشباب شأن وطني هو عدم تقزيمهم؛ لأن القول بالانتماء إلى “جيل زيد” سيقودنا إلى قراءات أخرى، أولاها التساؤل حول التوقيت الذي تزامن مع مفاوضات المغرب حول اتفاقية الاتحاد الأوروبي، وكيف انتقلت صور الاحتجاجات كالنار في هشيم قنوات التلفزيون الأوروبي ومواقعهم الرقمية في محاولة لتشويه صورة المغرب بالخارج.. وبالتالي إضعاف المركز التفاوضي المغربي أمام شركائه الأوروبيين، وخاصة النقطة المتعلقة بكتابة مصدر المنتوجات الفلاحية والصيد البحري. وهنا يفترض في الشباب علمهم المسبق بهذه المفاوضات المهمة، خاصة أنها كانت تسبق موعدا سياسيا فاصلا، يتعلق بإصدار توصية مجلس الأمن الدولي بخصوص ملف مغربية الصحراء في آخر شهر أكتوبر الجاري، حيث كنا نستعد لإغلاق هذا الملف بصفة نهائية باعتماد خيار الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المغربية..

فمن يختار، إذن، توقيت الخروج إلى الساحات داخل الغرف المظلمة؟ وكيف تحدد أجندة وتراتبية انتظارات الشباب؟

إن القول بالانتماء الى حركة “جيل زيد” يعني تبني كل شعاراته ورموزه وراياته، أي “التيفو” بلغة مشجعي مدرجات كرة القدم. يكاد “تيفو” حركة “جيل زيد” يختزل المضمون وفلسفة الحركة الاحتجاجية الشبابية، حيث اختارت شعار قصة الرسوم المتحركة “المانغا” للياباني إيكيرو اودا بما هو شعار القراصنة وقصة البطل “مونكي د ي روفي” وحلمه بأن يصبح ملكا للقراصنة… الرسوم خرجت إلى الوجود سنة 1997؛ وهي السنة نفسها المحددة “لجيل زيد”، وقد بيع منها 500 مليون نسخة مع ترجمات عديدة ودخلت كتاب غينيس سنة 2022.

لقد حددت قصة one piece العديد من عناصر التركيبة الذهنية للزعيم Donkey D Rufy وأصدقائه؛ ومنها اللامبالاة واللاقانون والمغامرة والفوضى باسم الحرية.. لهذا، فقد رفعه المتظاهرون في باريس لإسقاط حكومة بايرو، ورفعه المتظاهرون في إيطاليا وإندونيسيا والبارغواي وغيرها… لكن الساحات المغربية لم تعرف رفع هذا “التيفو / راية القراصنة السوداء… ورغم ذلك ظل بداخلنا إحساس قوي يقول لنا: هناك شيء غير بريء وغير عادي… وأن اللاعبين الكبار اختاروا بدقة كبيرة توقيت ونوعية الأعطاب حتى تلقى مصداقية على الأرض وقد كان لها ما أرادت…

لكن هناك العديد من المؤشرات الدالة على أن قمرة قيادة الغرف المظلمة تقع في مكان ما خارج الوطن؛ لأنه لا يعقل أن يحتج الشباب المغربي سلميا ثم يحرق الأخضر واليابس والدفع بالقاصرين، ثم يقدم الورود في عملية كر وفر مع السلطات العمومية… وفي توقيت يتزامن ومفاوضات دقيقة مع الاتحاد الأوروبي وآمال إغلاق ملف الصحراء المغربية بشكل نهائي… وما الهدف من بث الشباب لفيديوهات بلغات أجنبية فرنسية وإسبانية وإنجليزية؟ فهل هو استقواء بالخارج أم هي إشارات للاعبين الكبار الحقيقيين؟ خاصة أننا رصدنا اهتماما كبيرا من طرف CNN الأمريكية بنفس تشجيعي، في حين أنها لم تتفاعل بالطريقة نفسها مع احتجاجات السترات الصفراء بفرنسا إلا بعد مرور وقت طويل… أما القناة الفرنكوفونية فرانس 24 فقد لجأت إلى خاصية “التسويق أو الإشهار” من أجل ضمان انتشار أوسع على منصة “فيسبوك” التي تشغل فيها ذات السيدة اليمنية والحائزة على نوبل للسلام منصبا مرموقا في لجنة لتصنيف الأخبار الخاصة بالعالم العربي وتقرير نشرها من عدمه…!

الشيء نفسه يقال عن BBC و DW في تغطيتها لاحتجاجات دامية كتلك التي جرت في جورجيا باقتحام القصر الرئاسي، ورغم ذلك لم يكلف الأمين العام للأمم المتحدة غوتيرس نفسه إصدار بلاغ إدانة..!

لكل هذا أعتقد أنه يجب توصيف هذه الحركات الاحتجاجية الشبابية بالتفاعل المجتمعي الصحي… أما غير ذلك فيبقى حلقة جديدة من حلقات الإساءة إلى صورة المغرب بالخارج من لدن جهات معروفة بأجندتها العدائية للمؤسسة الملكية وللأجهزة الأمنية السيادية.. وضريبة على الاختيارات السيادية في مجال التحالفات الجيوستراتيجية وتنويع الشركاء الاقتصاديين، خاصة الصين والعمق الإفريقي… ولأن رب ضارة نافعة، فإن هذه الاحتجاجات قد تكون مقدمة للإعلان عن صناعة ثقافية مغربية لتوفير المرجعية الوطنية للأجيال في المستقبل… لكن قبل هذا ضرورة الإسراع بتنزيل عناصر الدولة الاجتماعية.

المصدر: هسبريس

شاركها.