قال عبد السلام ميغا، الكاتب الصحافي المالي المتخصص في شؤون الساحل، إن الجزائر، التي وصفها بـ”الجرثومة الإفريقية”، تسعى إلى تكريس نفوذها في المنطقة عبر دعم الحركات الانفصالية والتدخل في شؤون دول الجوار، مشددًا على أن الدولة الجزائرية تعيش عقدة تاريخية تجاه الدول ذات الإرث الإمبراطوري مثل مالي والمملكة المغربية؛ وبالتالي فهي تحاول صناعة صورة عن نفسها عبر دعم الفوضى وانعدام الأمن في جوارها الإقليمي.

وأضاف ميغا، في الحوار التالي الذي أجرته معه جريدة هسبريس الإلكترونية، أن باماكو تتجه نحو تعزيز تحالفاتها مع شركاء جدد أكثر موثوقية؛ وفي مقدمتهم المغرب، الذي اختار ما سماه بـ”دبلوماسية التنمية” بدل “دبلوماسية الأزمات” التي تنتهجها الجزائر.

وتوقع الكاتب الصحافي المالي المتخصص في شؤون الساحل في الوقت ذاته حدوث تحول في الموقف المالي من قضية الصحراء في اتجاه مساندة الطرح المغربي، انسجامًا مع قناعة السلطات في باماكو بأن دعم سيادة الدول ووحدتها يُعد أساس الاستقرار في المنطقة، خاصة في ظل معاناتها المستمرة هي الأخرى من ويلات محاولات الانفصال.

نص الحوار:

نبدأ أوّلًا بآخر تطورات العلاقات المالية ـ الجزائرية، ودعوة باماكو للجزائر، من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالكفّ عن دعم الإرهاب، وخطاب وزير الخارجية الجزائري من على المنبر نفسه. كيف ترى مستوى خطاب وزير خارجية الجزائر الذي استعمل مصطلحات “غير دبلوماسية” في الهجوم على السلطات المالية؟

ردّ وزير الخارجية الجزائري لم يكن خارج التوقّعات؛ فالجزائر اعتادت أن تعوّض غياب الحجج بالألفاظ الجارحة. ما صدر عنه على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة كان مسيئًا، وافتقر إلى اللباقة الدبلوماسية، حيث أظهر الردّ الجزائري بوضوح انحدار الخطاب الرسمي إلى مستوى لا يليق بفضاء دولي يُفترض أن يُبنى على الاحترام المتبادل.

في المقابل، يُحسب للدبلوماسية المالية أنّها لم تنجرّ إلى ذلك المستوى، واكتفت بالمطالبة الواضحة: أن تُقدّم الجزائر أدلّتها المزعومة على تجاوز الطائرة المسيّرة للحدود، وأن تتوقف عن دعم الجماعات والميليشيات المسلحة. ما كان منتظرًا من الجزائر هو الردّ بالحجج والإثباتات؛ لكن الجواب اقتصر على السبّ والتهجّم. هذه الاستراتيجية، في رأيي، لا تعبّر إلا عن ضعف موقفها؛ بل إنها تمثّل اعترافًا ضمنيًا بالذنب، لأنه لو كانت الجزائر تمتلك أدلة حقيقية لبادرت إلى تقديمها أمام المجتمع الدولي.

ما هي الأسباب العميقة التي تجعل الجزائر تدعم الإرهاب والحركات الانفصالية في شمال مالي وجوارها الإقليمي؟ هل هي مرتبطة باعتبارات أمنية أم جيوسياسية؟

هناك جملة من الأسباب المتشابكة؛ أوّلها سعي الجزائر إلى تكريس نفوذها في المنطقة عبر توظيف الحركات الانفصالية، سواء لتحقيق مشروعها التاريخي بإقامة كيان تديره وتوجّه سياساته أو على الأقل خلق واقع فيدرالي يُبقي شمال مالي رهينة لمصالحها. ثانيًا، هناك أبعاد اقتصادية واضحة؛ فالمناطق الشمالية الغنية مثل “حوض تودني” باتت محط أنظار بسبب ثرواتها النفطية والغازية، والجزائر تسعى إلى السيطرة عليها عبر دعم الفوضى. ثالثًا، البعد الجيوسياسي، إذ ترغب الجزائر في مدّ ممرات آمنة لتسهيل تحركات ميليشيات البوليساريو، بما يربط الصحراء المغربية بموريتانيا وشمال مالي؛ وهو ما يخدم استراتيجيتها القديمة لإطالة أمد النزاع في الصحراء. ولا ننسى أنّ الجزائر تعيش عقدة تاريخية أمام دول لها إرث إمبراطوري كمالي والمغرب. ولهذا، تحاول عبر التدخلات أن تصنع لنفسها صورة الدولة العظمى، وإن كان ذلك على حساب شعوب المنطقة.

الجزائر لا تزال تتحدث اليوم على أنها دولة نشطة دبلوماسيًا وتدافع عن مصالح إفريقيا كما تقول. فهل ما زالت تُعتبر وسيطًا مقبولًا في النزاعات الإفريقية، أم أن دورها أصبح محل تشكيك كبير، خاصة في ظل تدخلها في الشؤون الداخلية لمالي؟

الحقيقة أنّ الجزائر فقدت أي رصيد كوسيط نزيه. كيف يمكن أن تكون وسيطًا وأنت عاجز عن حلّ نزاعك مع جارك الغربي المغرب؛ بل وصلت إلى القطيعة الكاملة معه، وأغلقت الحدود والأجواء، وأدرت ظهرك لكل الوساطات الإفريقية والعربية؟

كيف يمكن أن تكون وسيطًا وأنت متهم اليوم بتغذية الأزمة في مالي عبر دعم جماعات مسلحة؟ الجزائر لم تعد تُعتبر وسيطًا، بل طرفًا مسببًا للأزمات. إنها اليوم معزولة دبلوماسيًا أكثر من أي وقت مضى، وقد خسرت ثقة محيطها الإفريقي الذي صار يرى فيها عبئًا أكثر من كونها طرفًا يساعد على الاستقرار.

إن توصيف الجزائر اليوم بـ “الجرثومة الإفريقية” يعكس واقعًا معاشًا، فهي تتصرف في محيطها الإقليمي كما تتصرف إسرائيل في الشرق الأوسط: افتعال أزمات، دعم انفصاليين، التدخل في شؤون الجوار، وتسليح وتمويل حركات تهدّد الاستقرار. لقد أسقطت طائرة مالية داخل أراضينا، ودعمت جماعات انفصالية، وفعلت الشيء نفسه مع المغرب منذ عقود عبر “البوليساريو”. الجزائر تقوّض الاستقرار الإقليمي وتبدّد ثرواتها في تغذية الفتن بدل أن تستثمر في شعبها، والنتيجة أن المنطقة كلها دفعت ثمن سياساتها التخريبية: تنمية معطّلة وأمن مهدّد. هذه ليست مجرد اتهامات، بل حقائق يشهد عليها تاريخ الساحل والصحراء.

مؤخرًا، أعلنت مالي، رفقة حلفائها في الساحل، الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية. ما هي دلالات هذه الخطوة من وجهة نظرك؟

القرار لم يكن مفاجئًا، بل هو نتيجة طبيعية لتراكم خيبات الأمل من مؤسسة أضحت تُستعمل كأداة سياسية أكثر من كونها آلية للعدالة. كونفدرالية دول الساحل ترى أن المحكمة الجنائية الدولية تمارس انتقائية فاضحة: تلاحق قادة أفارقة وتغضّ الطرف عن جرائم حرب وجرائم إبادة موثّقة ارتكبتها قوى كبرى. وصفها بأنها “أداة قمع استعمارية جديدة” دقيق، لأنها فشلت في أن تكون محكمة عالمية عادلة.

الانسحاب لا يعني القبول بالإفلات من العقاب؛ بل العكس، إذ أعلنت الدول الثلاث عن نيتها تأسيس محكمة ساحلية تُعنى بالعدالة الجنائية وحقوق الإنسان من منظور إقليمي. القرار أيضًا يعكس إرادة واضحة في التخلّص من القيود النيواستعمارية وإعادة بناء مؤسسات عدالة أقرب إلى شعوب المنطقة.

مؤخرًا أيضًا شهدت العلاقات بين المغرب ومالي تطورًا ملحوظًا، سواء في الشق السياسي أو العسكري أو حتى في كون باماكو واحدة من أهم أضلاع المبادرة الأطلسية التي أطلقتها الرباط لفائدة دول الساحل لولوج الأطلسي. أوّلًا، كيف تنظر إلى هذه المبادرة؟

المبادرة التي أطلقتها الرباط تحمل في طياتها رؤية استراتيجية بعيدة المدى، فهي تمنح دول الساحل الحبيسة فرصة تاريخية للخروج من عزلتها الجغرافية عبر الولوج إلى الأطلسي. هذا المشروع واعد للغاية، لكنه يواجه تحديات جدّية؛ فالطريق من تشاد إلى المحيط يتجاوز ثلاثة آلاف كيلومتر، والبنية التحتية شبه غائبة، بينما البيئة الأمنية مليئة بالتهديدات الإرهابية والانفصالية. وهناك أيضًا موقف موريتانيا المتحفّظ الذي يعكس ضغوطًا جزائرية قوية. ومع ذلك، فإن الفكرة في حد ذاتها تبعث الأمل، لأنها تقدم بديلًا لدول الساحل التي طالما ارتبطت تجاريًا بموانئ خليج غينيا فقط. ولو تحقق هذا المشروع، فإنه سيعيد صياغة التوازنات الجيوسياسية ويمنح الساحل خيارات أوسع.

في السياق نفسه، هل يمكن القول إن فقدان الثقة في الجزائر دفع مالي إلى البحث عن شركاء جدد مثل المغرب؟

العلاقات بين مالي والمغرب ليست وليدة الأزمة الحالية، بل لها جذور قديمة في التجارة والثقافة والدين. المغرب حاضر بقوة في اقتصاد مالي من خلال البنوك، الاتصالات، الصناعات الغذائية والبناء. لكن من الصحيح أن الأزمة مع الجزائر جعلت هذا التعاون يتخذ طابعًا استراتيجيًا جديدًا، خصوصًا في مجالات الأمن والدفاع. وبالتالي، لم يكن الأمر بحثًا عن بديل بقدر ما كان تعزيزًا لشراكة قائمة أصلًا، أثبتت أنها أكثر استقرارًا وموثوقية من العلاقة مع الجزائر.

ما الذي يميز السياسة الخارجية المغربية عن نظيرتها الجزائرية في المنطقة؟

الفارق بين المقاربتين المغربية والجزائرية في القارة السمراء يبدو اليوم واضحًا وحاسمًا. المغرب اختار ما يمكن تسميته بـ “دبلوماسية التنمية”، حيث ينخرط في إفريقيا؛ من خلال استثمارات اقتصادية، وشراكات تجارية، وتعاون تعليمي وثقافي، وبرامج ميدانية تعزز البنية التحتية وتخلق فرص عمل. حضوره يتجسّد في شركات مصرفية واتصالاتية ومؤسسات صناعية وخدماتية تنتشر في غرب إفريقيا ووسطها؛ وهو ما يمنح بلدان المنطقة إحساسًا بأن العلاقة معها قائمة على المنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة.

على النقيض، تعتمد الجزائر على ما يصحّ تسميته بـ “دبلوماسية الأزمات”، حيث توظّف خطابًا سياسيًا يقوم على الشعارات الثورية والدعم المعلن للحركات الانفصالية، مع تدخلات أمنية سرّية وعلنية في شؤون الجوار. هذه المقاربة جعلت حضورها يرتبط غالبًا بمحاولات ابتزاز سياسي أو تغذية توترات داخلية، بدل الاستثمار في الاستقرار والتنمية.

المغرب اعتبر، على لسان ملك البلاد، أن الرباط لم تعد تؤمن بأية شراكة مع أي بلد في العالم لا يعترف بالسيادة المغربية على الصحراء، التي تطالب جبهة البوليساريو بانفصالها. وبما أن مالي عانت من ويلات الحركات الانفصالية، هل تعتقد أن مالي ستتخذ مستقبلًا موقفًا داعمًا للطرح المغربي؟

من الناحية التاريخية، اعتمدت مالي سياسة الحياد، رغم أن نظام موسى تراوري اعترف سنة 1980 بما يسمى “الجمهورية الصحراوية”؛ لكنها لم تُخفِ يومًا دعمها لوحدة التراب المغربي في دوائر مغلقة. لكن التجارب القاسية التي عاشتها مالي مع الانفصال غيّرت الكثير. مالي تدرك، اليوم، أن دعم الانفصال في أي بلد يفتح الباب أمامه داخل حدودها. لذلك، من المرجّح أن تتحول مالي تدريجيًا نحو موقف داعم لوحدة الأراضي المغربية، انسجامًا مع قناعتها بأن استقرار المنطقة لا يتحقق إلا باحترام سيادة الدول ووحدة ترابها الوطني.

المصدر: هسبريس

شاركها.