أمد/ بين جيلين تفصل بينهما عقود من التجارب، تتبدّى صورة المقاومة الفلسطينية وهي تتقلب بين الأدوات والسياقات، لكن ما يبقى حاضرًا هو سؤال: من الذي كان يصوغ القرار، ومن الذي كان يدفع الثمن؟ في جيل السبعينيات والثمانينيات، أي جيل “X”، كان الشبان والفتيات الفلسطينيون يقاتلون في الميادين، يُعتقلون في السجون، ويُطاردون في الشتات. غير أنّ “قيادة المنظمة” آنذاك، ومعها القوى المهيمنة على القرار الفلسطيني، استغلّت غياب التكنولوجيا الحديثة، واحتكارها وسائل الإعلام والاتصال، لتمرير اتفاقيات ومواقف أضعفت المنظومة الثورية. حين وُقّعت اتفاقية أوسلو مثلًا، لم يكن للشباب الفلسطيني أي وسيلة رقمية للاعتراض أو كشف خفايا التفاوض، فكان كل شيء يُدار خلف أبواب مغلقة، على الطريقة التي كان يدير بها هنري كيسنجر المفاوضات في الشرق الأوسط، أو كما كانت القيادات العسكرية في أميركا اللاتينية تُحكم قبضتها على شعوبها بعيدًا عن الأعين.
جيل “X” الفلسطيني وجد نفسه في الشارع، بالحجارة والانتفاضات الشعبية، لكنه كان مكبّلًا بإعلام موجه وبنية تنظيمية جامدة.
القيادة كانت تملك وحدها حق الكلام باسم الشعب، وحين ظهرت قوى إسلامية مثل حماس، فإنها بدورها كررت الأسلوب نفسه، باستثمار غياب أدوات التواصل الاجتماعي لتكريس شرعية خطابها الخاص. لم يكن أحد قادرًا على اختراق سرديتها أو مساءلتها، كما حصل في تجربة الخمير الحمر في كمبوديا أو “الحزب الثوري” في نيكاراغوا، حيث احتُكرت الحقيقة من طرف واحد وأُخضعت الجماهير لقرار فوقي.
ومع كل ما ارتكبته قياداتنا من تنازلات وتمريرات سرّية في ظل غياب التكنولوجيا واحتكارها للمعلومة، فإنّ ما حال دون انزلاق المشهد إلى مستوى أخطر كان التدخل المصري الدائم. فالقاهرة، بما تمتلكه من ثقل إقليمي وشرعية تاريخية في الصراع العربيالإسرائيلي، فرضت على مدار العقود أن تظل فلسطين قضية حق لا يمكن شطبها من جدول الأعمال. في لحظات مفصلية، من كامب ديفيد إلى أوسلو، كان الحرص المصري بمثابة كابح لانهيار كامل كان يمكن أن تذهب إليه “قيادة فلسطين ” لو تُركت وحيدة. حتى في سنوات الانقسام، حين تحولت حماس إلى لاعب أساسي، ظلّت الوساطة المصرية هي السقف الذي يمنع سقوط الشرعية الفلسطينية في هاوية التصفية النهائية. ولولا هذا الضغط المستمر، لكانت القرارات التي اتخذها الفلسطينيون تجاوزت كل الخطوط الحمراء، ولأُعيد رسم خريطة فلسطين كما أُعيد رسم خرائط البلقان أو جنوب السودان، حيث غابت القوى الضامنة وانفجرت الخرائط على حساب الشعوب.
اليوم، مع جيل “Z”، يتغيّر المشهد. هذا الجيل الفلسطيني الذي وُلد في زمن الإنترنت المفتوح، لا يقبل أن يُدار مصيره في الغرف المغلقة. شبابه يوثقون كل لحظة بكاميراتهم، يفضحون القصف والاعتقال على “تيك توك” و”إنستغرام”، يحرجون الحكومات الغربية أمام شعوبها، ويحوّلون التضامن إلى تيار عالمي. ما لم تستطع “قيادة الثورة” أن تحققه في عقود، يفعله مراهق فلسطيني خلال بث مباشر يشاهده مئات الآلاف في أميركا وأوروبا. هذا يشبه إلى حدّ بعيد ثورة الشباب في هونغ كونغ الذين استخدموا التكنولوجيا لكسر قبضة بكين الإعلامية، أو الحراك المناخي بقيادة غريتا تونبرغ التي استطاعت، بمجرّد حساب على “تويتر”، أن تُحدث إرباكًا عالميًا في سياسات المناخ.
المفارقة أن جيل “X” كان يضحّي بدمه في الشارع بينما قيادته تساوم باسمه، وجيل “Z” يضحّي بصوته وصورته في الفضاء الرقمي بينما القيادات تواصل الدور نفسه، محاولةً الالتفاف على وعي جديد لم يعد من السهل تدجينه. لكن الفارق الحاسم هو أن جيل “Z” يمتلك أداة لم تكن موجودة سابقًا: فضاء مفتوح لا يمكن السيطرة عليه بسهولة. فإذا كانت الانتفاضة الأولى عام 1987 قُمعت تحت التعتيم، فإن انتفاضات غزة والقدس اليوم تُبث لحظة بلحظة، لتصبح ذاكرة جماعية حيّة لا تحتكرها النخبة.
هكذا يظل السؤال معلقًا: هل ستبقى القيادات الفلسطينية قادرة على مصادرة قرار الأجيال، أم أن جيل “Z”، بما يمتلك من وعي تقني، سيكسر الحلقة التاريخية التي جعلت تضحيات الفلسطينيين وقودًا لمساومات فوقية؟ الجواب يتشكل يومًا بعد يوم، في كل صورة يلتقطها شاب تحت الحصار، وفي كل وسم يصل إلى الرأي العام العالمي أسرع من أي بيان رسمي.