رباب محمد الحسن

المقدمة: الميم كوحدة ثقافية سريعة الانتشار

“ميمات” (memes) اشتقّت من كلمة “mimeme”، مستمدة من اللغة اليونانية القديمة “mimēma” أو “mimēsis”، التي تعني “محاكاة” أو “تقليد” وتعرف الميمات عادةً بأنها الصور، مقاطع الفيديو، أو العبارات الفكاهية والساخرة التي تنتشر بسرعة فائقة عبر منصات التواصل الاجتماعي. هذه الظاهرة، التي قد تبدو سطحية في البداية، تحمل في طياتها مفهومًا عميقًا يُفسر كيفية انتقال الأفكار والثقافات عبر المجتمعات البشرية.

كيف أصبحت هذه النكتة الرقمية لغة العصر ومقياسًا للوعي الثقافي؟ إنه تساؤل يدفعنا لاستكشاف تطور هذه الظاهرة من جذورها الأكاديمية إلى واقعها المعاصر.

نظرية التطور الثقافي: صاغ عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكينز هذا المصطلح في كتابه “الجين الأناني” (The Selfish Gene) عام 1976، مستوحيًا الفكرة من مبادئ الانتخاب الطبيعي لتشارلز داروين، حيث أقر بأن الأفكار والثقافات تتطور وتنتشر بنفس الطريقة التي تتطور بها الجينات، من خلال التنافس والتكيف مع البيئة الاجتماعية.
يمكن مقارنة الميم بالجين كالتالي:
الجين (Gene) في علم الوراثة هو وحدة المعلومات البيولوجية التي تنتقل وراثيًا، بينما الميم (Meme) في علم الثقافة هو وحدة المعلومات الثقافية التي تنتقل بالتفاعل. آلية انتقال الجين تعتمد على التكاثر البيولوجي من الوالدين إلى الأبناء، بينما آلية انتقال الميم تعتمد على التقليد والمحاكاة من عقل إلى عقل. ما يُنسخه الجين هو المعلومات الجينية أو الصفات الوراثية، بينما يُنسخ الميم الأفكار، العادات، العبارات، الموضات، والمعتقدات. أما بالنسبة للبقاء والانتشار، فإن الجينات الأقوى والأكثر تكيفًا هي التي تبقى وتنتشر في المحيط البيئي، بينما الميمات الأكثر جاذبية وفائدة أو انتشارًا هي التي تبقى وتنتشر في المحيط الثقافي.

أجزاء ميم الإنترنت النموذجي:

القالب (Template): وهي الصورة أو الفيديو أو الشخصية الثابتة التي يتم الاعتماد عليها. هذا القالب يحمل دلالة أو تعبيرًا أو موقفًا راسخًا في الذاكرة الجمعية لمستخدمي الإنترنت (مثل صورة قطة معينة، أو مشهد من فيلم معروف).
التعليق/النص (Caption): وهو الجزء المتغير الذي يُكتب على القالب للتعبير عن فكرة أو موقف جديد. هذا النص هو ما يجعل الميم قابلاً للتكيف مع آلاف المواقف المختلفة.

سيكولوجية الانتشار: لماذا تنجح الميمات؟

الكثافة الاتصالية (Communicative Comporession): الميم ينقل ابعاداً من المعاني، المشاعر، الموقف الكوميدي، والسياق الثقافي، في صورة وعبارة قصيرتين جدًا، مما يقول الكثير بأقل عدد من الكلمات.
التناص (Intertextuality): فهم الميم غالبًا يعتمد على معرفة سياق خارجي (فيلم، حدث سياسي، أغنية، ميم قديم)، مما يخلق رابطًا بين الأشخاص الذين يشاركون نفس المعرفة.
القابلية للتكيف (Adaptability): القالب الواحد يمكن استخدامه للتعبير عن مواقف مختلفة تمامًا (في الدراسة، العمل، العلاقات، السياسة)، مما يزيد من فرص بقائه وانتشاره.
الجاذبية العاطفية (Emotional Appeal): الميمات تلامس حس الفكاهة، التعاطف، أو السخرية، وهي محفزات قوية للمشاركة والنشر.

‎التحول الرقمي: ولادة “ميمات الإنترنت”

لقد وفرت منصات التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لتطبيق نظرية الميم بسرعة غير مسبوقة. بدأت الميمات الرقمية بشكلها الكلاسيكي مع “ماكرو الصور” (Image Macros)، وهي صور نصية ظهرت في المنتديات المبكرة، حيث يتم إضافة نصوص متغيرة إلى صور ثابتة. مع الزمن، تطورت لتشمل GIFs، مقاطع فيديو قصيرة، وكوميكس مصورة، مما عزز تنوعها وجعلها أكثر جاذبية للجمهور العالمي.

الميم كأداة تغيير: القوة الناعمة للفكاهة الرقمية

لم تعد الميمات مجرد وسيلة ترفيهية عابرة، بل تطورت لتصبح قوة ناعمة ذات تأثير كبير في صياغة الرأي العام وتوجيه النقاشات الاجتماعية والسياسية. قدرتها الاستثنائية على تلخيص المواقف المعقدة بأسلوب ساخر ومختصر جعلتها أداة فعالة للنقد والتعبير. هذه القدرة تبرز دور الميم كعنصر حيوي في الثقافة الرقمية المعاصرة، حيث يعكس الواقع ويسهم في تشكيله في آن واحد.

الخلاصة:

أصبحت الميمات شكلاً متميزاً من اللغة البصرية التي تعبر عن الأفكار والمشاعر عبر الأجيال الجديدة، مقدمة أداة قوية للتعبير السياسي والاجتماعي والشخصي بنقل الرسائل بسرعة وكفاءة. مع تطور وسائل التواصل، ستستمر في التكيف والتغير، لكن مبدأها الأساسيانتقال الأفكار بالتقليدسيبقى ركيزة أساسية في ثقافتنا الحديثة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.