أمد/ قبل أن تنزل قدم أول جندي بريطاني على أرض فلسطين هبّ الفلسطينيون في مواجهة الزحف الاستعماري ولم يكن خافيا على أحد ان الهجوم البريطاني على فلسطين الا احد عناوين ثلاثة تشاركت معا في فترة زمنية واحدة: ” سايكس بيكو” و”وعد بلفور” و”احتلال فلسطين”.. هنا نكتشف تعقيد القضية الفلسطينية لارتباطها بالتجزئة ومواجهة العصابة المالية الدولية التي اتخذت من الاستعمار طريقا الى تحويل فلسطين قاعدة المشروع الصهيوني المالي العالمي.. وهنا تبرز تعقيدات معالجة القضية الفلسطينية فهي لن تكون مواجهة مع المحتل فقط بل مع كل أدوات المشروع الصهيوني العالمي المحلية والعالمية وذلك على مدار أكثر من قرن حيث قدم الفلسطينيون فيها صفحات البطولة والعطاء المتميز..

ان هذه اللازمة التاريخية السياسية ارتقت في ثبوتها لتكون الشاهد الحاضر دوما عندما نتناول الحديث عن أي مرحلة في كفاح الشعب فنحن لا نواجه فقط نظام حكم متخلف ديكتاتوري مرتبط بالخارج ولا غزو ثقافي اعلامي ولا نظام اقتصادي ولا ايديولويجا معينة ووجهة نظر في الحياة، انما نواجه ارادة عالمية بالقضاء على شعب فلسطين والاستحواذ تماما على أرضها لتكون القاعدة الرئيسية للمشروع فهنا بالضبط عاصمة العصابة المالية العالمية الصهيونية.

مبادرة ترمب:

بعيدا عن أجواء الاحتفال الرسمي العربي والاسلامي، وبعيدا عن ردات فعل تنطلق من الإحساس بالخسارة، وبعيدا عن حسابات الآمال والأمنيات، وبعيدا عن توقعات تغيير قريب في النظام الدولي أو العربي، وبعيدا عن السقوط في عسل الأوهام، بعيدا عن كل هذا هل هناك فسحة لنتكلم بعقل بارد،

لقد اخبر الرئيس أردوغان انه اتفق مع ترمب على المبادرة والحكام العرب أيدوها وأعلن ترمب انهم اقترحوه رئيسا للسلام على غزة و بلير مستشارا له..

فيما أبدت قطر سعادتها ان نتنياهو تأسف عن انتهاك سيادة مجالها الجوي رغم أنه لم يعتذر وتعتقد ان موقفها بعد خرق اجواءها هو الذي انجز المبادرة كما ان أردوغان قد عاد بصفقة طائرات ومديح عال من قبل ترمب .. واكد ترمب ان الحكام يهمهم المشروع الابراهيمي..

وهنا لابد من تأمل المناخ الذي صاحب الإعلان عن المبادرة الامريكية والتي تبدو للكثييرين شكلا ومضمونا عتوا امريكيا وتجبرا وطاغوتا منقطع النظير وهي اقرب الى فرض شروط الاستسلام من ان تكون اتفاقية لانهاء العدوان على غزة.. فالسيد الامريكي هو من صاغ المبادرة ولا يستبعد أن تكون الصياغة قد شاركه فيها نتنياهو كما ادعى.. ولم يطلقها ترمب كمبادرة انما كتوجيه وقرار.

والأمر الخانق هو أن تأتي هذه المبادرة الامريكية بعد لقاء موسع بين ترمب وكل الحكام العرب والمسلمين يتناقشون في مسألة ايقاف الحرب ويكون قد تلا عليهم الاتفاقية ووجدا انها المتاح الذي قد لا ييستمر عرضه.. ومعها قدموا تنازلات كبيرة.

لم يعتمد ترمب المبادرة الا في حضرة نتنياهو وبعد تفسيرها له تماما وبمقدمة شعرية مغرقة في المديح من قبل الرئيس الامريكي الذي حول نتنياهو الى بطل عالمي وهو الذي تلاحقه محاكم العدل الدولية بما ارتكب من جرائم ضد الانسانية.. فيما واصل ترمب ونتنياهو سردية الكذب عن 7 اكتوبر.. وتابع الرئيس الامريكي تهديده ان لم تأت الاجابة سريعة من قبل المقاومة الفلسطينية فانه سيمنح نتنياهو كل ما يريد لحل الصعوبات حسب تصريحات ترمب.. فمنذ البداية ينحاز ترمب بتزويد عصابة القتلة المجرمين بشتى أنواع القنابل والاسلحة ولم يتوقف الامداد الامريكي بسخاء لاسرائيل.. ولذا يصبح من العبث الحديث عن وساطات ووسطاء فالصهاينة رفضوا ان تتسمر الواقعات على رتم الوساطة ومن هنا جاء ترمب في مبادرته دون استشارة من حماس مكتفيا عنها بمناقشة العرب الرسميين ومتشاورا مع نتنياهو.

وهكذا يبدو أن نتنياهو يحقق أهدافه بان ينزع سلاح المقاومة وان يخرج مجموعات المقاتلين عبر ممرات آمن وهكذا يكون فلت من المحاسبة. بغطاء امريكي وترحيب عربي واسلامي، ومع كل كلمة من هذه الكلمات كميات من التلذذ الصهيوني كبيرة بان جولة شرسة تم تجاوزها الى حد ما وتأمين الكيان لعشرات السنين.. فيكون نتنياهو قد انجز من الحرب مبتغاه: اولا حجم القتل في اهل غزة وثانيا فرض العزلة العربية على المقاومة الفلسطينية وشعب غزة اما تخويفا او تطميعا.. فغدت غزة لا تربطها بمحيطها العربي رابطة.. تموت جوعا وقصفا وتدميرا فيما الحكومات العربية تتبادل مع الامريكان ايات المديح والترابط الاستراتيجي.. ويكون الحل بعد ذلك أمريكيا.. فهل هذا هو كل المشهد؟

حتى الان تبدو عناوين المبادرة الكبيرة ناقصة ضبط كما صرح الحكام العرب لاسيما حكام قطر وكما ان تفصيلاتها بحاجة الى تحديد وتفصيل. فان الخوف الكبير ان ياخذ نتنياهو أسراه ومن ثم يعود مصعدا هجومه كما فعل كل مرة على غزة ولن يعدم التبريرات.. الملاحظ ان حكام العرب والمسلمين أقاموا حفلة وسارعوا في تهنئة ترمب على عبقريته.. ولكل منهم حسبته.. ورشحوه ليكون رئيس مجلس السلام الذي يشرف على القطاع.

أي مرحلة نمر بها:

اي مرحلة تعبر عنها احتفالية المبادرة .. انها مرحلة الهوان المركب!! عندما يحتشد قادة العرب والمسلمين أمام المجرم الذي يسير اسطولا جويا لا ينقطع بشتى انواع السلاح للفتك باخوة الدين والدم.. ولعل هذا المشهد سيكون له الاثر البالغ في تشكيل الوعي والواقع.. وهنا يطرح السؤال المنطقي وماذا يمكن للفلسطينيين ان يفعلوا هل يواجهون الإعصار فينكسروا ام يركبون الموج فيغرقوا.. ام ان هناك سبيل اخر .. اطراف المواجهة كلها مكشوفة ولا فرصة للادعاء بأن شيئا ما يغيب عنا فكل ما يغيب عنا لن يكون ذا قيمة في المطحنة الكبيرة.. دفعت المرحلة بالعرب رسميا وشعبيا خارج مسرح العمليات الى آخر الموكب فيما أحرارهم يتمزقون ألما وغما…

ان تردد حماس في الاعلان عن موقفها يعني بوضوح أنها تتجرع السم ولم تملك القدرة النفسية والحسابات الكافية لجعلها ترفض المبادرة فورا وهي ترى ان بنودها تسوق معاني الهزيمة المعنوية والاستسلام لشروط العدو.. ولكن المفترض أن توسع دائرة التفكير لترى المشهد كله ولتربط الماضي بالمستقبل لمصلحة الشعب والقضية

ان ترمب يهدد بأنها ثلاثة أيام فإما موافقة حماس والا فالمصائب كبيرة على رأس حماس.. ولعل الجميع يدرك أن ترمب نفسه لا يثق بكلامه ليلة وضحاها وانه يخضع او يشترك مع لوبيات عنصرية قاتلة في الولايات المتحدة وان حساباته هي التي تملي عليه مواقف اللحظة القابلة للتبدل والتغيير.

للهزيمة والانتصار معاني كثيرة:

من اصعب ما يكون على النفس أن تصبح اللغة هي سترها في عدم قدرتها عن البوح عن حقيقة الحاصل.. وللاسف يذهب اعتقاد كثيرون أن التعامل مع الواقع في وقته بانحناء او انسحاب قد يتم تفسيره على انه ضعف وانهزام في حين يمتليء القرآن بقصص الانبياء والصالحين وكذلك حركة التاريخ والسير تشرح وتفسر أن النصر والهزيمة ليست فقط بما يتم من نتائج سريعة ظاهرة.. ولكن ايضا هناك مشكلة مستفحلة ان يظن احد ان الهزيمة يمكن لها ان تخدش قيمة اصحاب الحق ورسالتهم وقضيتهم ومبدأ مواجهتهم، وهنا تحتشد امامنا القصص الكريمة تشير لنا بوضوح كيف انتصر طغاة مجرمون وانهزم اطهار رسل وانبياء وصالحون.. لم تكن نتائج المعارك دلالة على صحة الموقف أو العقيدة أو العزيمة وفي كل الاحوال كانت الشهادة التاريخية أن ظل الشريف شريفا والنذل نذلا..

وهنا نفتح بابا اخر للتعريف والمصطلح فهناك تضحيات جليلة من العبث ان تعزل عن بواعثها فان كانت بواعثها نبيلة شريفة استمر وهجها . ثم حتى أن الخسارة في معركة مهما كانت مؤلمة فهي لا تكون نهاية الحرب انما هي جولة من الجولات وسيأتي من يحمل الراية والهدف في ظروف أخرى ومعطيات أخرى ليحقق انتصارات لم يحققها السابقون.. والمهم في كل هذه الأحوال أن لا يتسلل الشك في الحق الى قلوب أصحابه ولا يغشى الضباب بصيرة المؤمنين بأن النصر كما الهزيمة يحتاج التدبر ويرتبط بشروطه.

الأمير عبدالقادر وعمر المختار وعز الدين القسام في زماننا هم عناوين المقاومة المستميتة والتي انتهت بان خرجت من الميدان بفعل قوة الطغيان التي تفوق أي معيار للتكافؤ.. وفي التاريخ انبياء ورسل واولياء واوصياء قتلوا او شردوا او شتت بهم.. ولكنهم لم يتنازلوا عن حقهم ولم تنته معركتهم انما هي جولة صعبة وقاسية والجولات القادمة جاءت بالنصر كاملا..

وهنا تكون اللياقة ضرورة بالغة لكن معها لا تنازل عن حق مقدس ولا قيمة انسانية عليا.. في هذه الحال لاتكون غلبة العدو المدجج بكل قوى الشر انتصارا انما هي جولة قاسية تنتهي بعد حين ليأتي الحق بأهله في موجة جديدة ليكسر شوكة الباطل ويزيحه عن المشهد.

كان لابد أن نقدم بهذه المعاني ونحن نقف على تفهم وفهم ما يمكن أن يحصل في الأيام القادمة.. اذ أن القرار والقدرة كاملان لدى صناع الموقف الغربيين وأصدقائهم الحكام العرب بضرورة اخراج المقاومة الفلسطينية من المشهد.. ليست اسرائيل وحدها تطالب بنزع سلاح المقاومة وان كان طلبها يتجاوز ذلك الى الابادة الجماعية والتهجير الجماعي من غزة بل من فلسطين كلها.. وفي مطلب نزع السلاح تلتقي مع النظام العربي والسلطة الفلسطينية ولعل لا أحد عارض ترمب في بند نزع السلاح واخراج المقامة من المشهد السياسي.. وعلى هذا يكون هذا البند محل إجماع عربي غربي صهيوني.. وهنا تصبح الصعوبة الكبيرة في امكانية تجاوز هذا البند اذ أن الموقف لا يكتفي بالرفض والاصرار انما يتم ترجمته الى خطط واستراتيجيات واجراءات على الارض من ملاحقات واختراقات وتصفيات وتضييق وحصار..

ولكن لابد من تسجيل نقاط أخرى مهمة واساسية في مبادرة ترمب رغم عدم اليقين وعدم الثقة.. وهي تعكس اثار ما تركه الفعل الفلسطيني في مواجهة الهجوم الامريكي الصهيوني.

فلقد أسقط ترمب مبدأ التهجير والاستيطان في قطاع غزة وهذا أكبر انكسار لحدة الهجوم الامريكي الصهيوني، ويمكن أن يكون للنظام العربي وتركيا دور سياسي في هذا لما لهم من علاقات تخادمية مع الامريكان ولما يقدمونه للامريكان من مكاسب عظيمة وكذلك يكون هذا الموقف الامريكي قد تبلور على أرضية صمود أهل غزة الاسطوري ورفضهم الهجرة.. ولكن أيضا لابد من النظر بعين الأهمية لما أحدثه الرأي العام العالمي في شعوب أوربا وامريكا من ضغط كبير على صانع القرار الغربي والامريكي.. فلقد وصل الأمر الى ما يشبه بثورة ثقافية في الموقف الشعبي وأصبحت فلسطين حاضرة فاعلة بكل قوة وضاغطة على الحكومات والاحزاب الغربية.

إننا نستطيع أن نعلن بوضوح هزيمة المخطط الصهيوني والموقف الامريكي التي تمثلت بانكساره عن اهدافه الاستراتيجية: التهجير والاحتلال.. ولا بد من اعتبار هذا انتصار لصمود الشعب الفلسطيني .. كما أن المقاومة الفلسطينية الباسلة ألقت في روع الجميع أنه لا استقرار ولا امان في المنطقة دون حل ولو جزئيا في المنطقة يرفع الغبن ولو جزئيا عن الشعب الفلسطيني وينهي الى الابد فكرة العبث بمصيره ومستقبله..

إن تحرك ترمب نحو الاعتراف بهزيمته وهزيمة اسرائيل في التهجير والضم والعبث بقطاع غزة لم يأت فقط من حسابات سياسية إنما بلا شك جاء من ادراك كبير أن عمليات التفريغ من غزة والضفة انما هي تصطدم بارادة شعب يرى الحياة بدون فلسطين موت وذلة.. فبعد عامين من ابادة لم يشهدها تاريخ البشر ظل أهل غزة متشبثين بارضهم ولم يرفعوا الراية البيضاء.

كلمة أخيرة:

بغض النظر عن موقف الفصائل الفلسطينية قبول المبادرة او رفضها..وهي من ينبغي أن يقدره جيدا على أرضية المصلحة العليا للقضية والشعب.. الا اننا نقول ان الفوز بانتزاعنا اقرارا منهم بعدم التهجير وعدم الاحتلال لغزة يعتبر بلا شك نصر كبير معجون بالدم وانكسار كبير للطغمة المجرمة في البيت الابيض وفي الكنيست والحكومة الاسرائيلية.

ان غزة تصبح بهذا القطعة الاولى من ارض فلسطين يتم تحريرها باقرار دولي وخضوع من قبل العدو.. اليوم ليس اعادة انتشار وليس تغيير تموقع للقوات الصهيونية انما انسحاب واقرار بعدم الاحتلال والضم..وفي هذا يجب ان يضغط الفلسطينيون ان يكون الانسحاب ليس بريا بل وبحريا ايضا مع توفر الامن التام لقطاع غزة.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعقلون.

شاركها.