عمر سيد أحمد 

منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، يعيش السودان أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث. الحرب لم تكتفِ بتعطيل دورة الإنتاج، بل فرضت اقتصادًا موازيًا ينافس الدولة على مواردها ويعيد تشكيل أسواقها وحدودها. ومع دخولها عامها الثالث، تزايدت حدة الانهيار الاقتصادي واتسعت دائرة الفقر والنزوح، لتصبح الحرب المحدد الرئيسي لكل مؤشرات الاقتصاد الكلي والاجتماعي.

انكمش الناتج المحلي الإجمالي من 56.3 مليار دولار في 2022 إلى نحو 32.4 مليار دولار متوقَّعًا بنهاية 2025، أي بتراجع يقارب 42% خلال ثلاث سنوات فقط¹. وتجاوزت الخسائر المباشرة في القطاعات الإنتاجية 90 مليار دولار، مع تعطل أكثر من 60% من المصانع وارتفاع معدلات البطالة إلى أكثر من 45%. هذا الانهيار أدى إلى فقدان نحو 4.6 مليون وظيفة وتراجع دخول الأسر بما يصل إلى 42%، بينما قفزت نسبة الفقر من 61% في 2022 إلى ما يقارب 70% من السكان بحلول 2025².

الآثار التضخمية كانت كارثية، إذ لم يقتصر الأمر على ضخ أموال غير رسمية عبر الذهب والدولار الموازي، بل تفاقمت الأزمة بفعل التوسع النقدي غير المنضبط وتمويل العجز عبر طباعة النقود، وانهيار قيمة الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية، إلى جانب النقص الحاد في السلع الأساسية نتيجة تعطّل الإنتاج الزراعي والصناعي. كما ساهمت هيمنة الاقتصاد الموازي والتهريب، وتآكل الثقة في الجهاز المصرفي، وارتفاع تكاليف النقل بسبب الأوضاع الأمنية، في إشعال موجة تضخم جامحة تجاوزت 120%³ وزادت من معاناة المواطنين اليومية. وأدى هذا الواقع إلى استنزاف الإيرادات العامة نتيجة تسرب الموارد إلى قنوات التهريب، فيما انهارت الخدمات الاجتماعية بسبب غياب عائدات الدولة عن تمويل قطاعات التعليم والصحة. وفي الوقت ذاته، ظهرت طبقة طفيلية من تجار الحرب الذين راكموا الثروات على حساب المجتمع، بينما اتسعت رقعة الفقر المدقع لتشمل غالبية السكان.

ولم تقتصر التداعيات على الاقتصاد الكلي، بل يمكن القول إن كل القطاعات الإنتاجية قد أُصيبت في مقتل، من المصارف إلى الزراعة والصناعة والخدمات الاجتماعية، وصولًا إلى الأمن الغذائي. اقتصاد الحرب في السودان ليس مجرد انكماش اقتصادي أو زيادة في العجز، بل هو بنية بديلة تتشكل أثناء الصراعات المسلحة. في هذه البنية، تنتقل السيطرة على الموارد من مؤسسات الدولة الرسمية إلى شبكات موازية تضم جماعات مسلحة، تجار حرب، سماسرة عابرين للحدود، ومؤسسات مالية غير رسمية. يتميز هذا الاقتصاد بغياب الشفافية وارتباط النشاط الاقتصادي بالولاءات العسكرية والسياسية، كما يتحول فيه النشاط الإنتاجي والخدمي إلى رهينة للعنف والسيطرة المسلحة بدلًا من القانون والمؤسسات.

وقد توسّع الاقتصاد الموازي منذ اندلاع الحرب حتى بات يتحكم في أكثر من 90% من النشاط الاقتصادي الفعلي، ويأخذ عدة أشكال. فالذهب، وهو أهم مورد استراتيجي، يُهرّب بنسبة تصل إلى 7080% من الإنتاج السنوي⁴، عبر مصر وتشاد وليبيا وصولًا إلى الإمارات. أما الوقود، فيتم استيراده بواسطة طفيلي الحركة الإسلامية برعاية سلطة الأمر الواقع التي تسهل لها الأمر بفرض الأسعار الجديدة بشكل دوري، مما يتيح لمستوردي الوقود تحقيق ملايين الدولارات شهريًا، فيما ينخفض الجنيه السوداني وتزداد معاناة الناس. والسلع الأساسية، مثل القمح والسكر والأدوية، تُستورد هي الأخرى عبر نفس شبكات الطفيليين وتجار الحرب الداعمين لاستمرار النزاع.

تحوّل الخراب إلى دورة ربح خاصة؛ إذ عمدت شبكات تابعة للدولة العميقة، التي أطلقت سراح نزلاء السجون من مرتادي الإجرام واستعانت بهم في نهب أصول الدولة، بما في ذلك نزع النحاس من كابلات كهرباء العاصمة وبيعه، ثم إعادة استيراده بملايين الدولارات  عبر صفقات احتكارية. وبهذه الطريقة تُراكم تلك الشبكات أرباحًا هائلة برعاية سلطة الأمر الواقع، فيما يدفع الشعب ثمن ذلك من إفقاره وانقطاع خدماته الأساسية⁵.

كما أن كل  تحويلات السودانيين بالخارج تتم عبر قنوات غير رسمية، ما يُضعف قدرة الدولة على الحصول على النقد الأجنبي. وتفرض الجماعات المسلحة إتاوات على الطرق والمنافذ والأسواق، مما يشكّل “ضرائب ظل” توازي ضرائب الدولة. هذا الواقع أعاد تشكيل الدولة نفسها. فالسلطة المركزية أُضعفت، والسوق الوطني تشظّى مع تباين الأسعار من منطقة لأخرى بحسب السيطرة المسلحة، ما أضعف سلاسل التوزيع. كما انتقلت الثروة من قطاعات الإنتاج الحقيقي إلى القطاعات غير المشروعة مثل تهريب الذهب والوقود، فيما اندمج تجار الحرب مع شبكات سياسية وعسكرية ليكوّنوا طبقة قادرة على الاستمرار حتى بعد انتهاء الحرب.

تحوّل تمويل الحرب إلى منظومة اقتصادية موازية تعتمد أساسًا على تهريب الذهب ونهب الموارد. وتشير تقديرات إلى أن ما يصل إلى 80% من إنتاج الذهب السوداني يُهرَّب عبر دول الجوار إلى الأسواق العالمية، خصوصًا الإمارات التي استحوذت على نحو 97% من الصادرات الرسمية في 2024 بعائدات بلغت 1.52 مليار دولار⁶. كما قُدّر أن التهريب عبر مصر وحدها تجاوز 100 كغ يوميًا منذ اندلاع الحرب، أي أكثر من 60 طنًا خلال عامي 20232024⁷. هذه العائدات غير الرسمية تحوّلت إلى مصدر رئيسي لتمويل أطراف النزاع، بالتوازي مع نهب أصول الدولة وتخريب البنية التحتية.

وتُظهر التجارب الدولية أن اقتصاد الحرب لا ينتهي بانتهاء المعارك. ففي سيراليون وليبيريا تحوّل الماس إلى “موارد دموية” مولت المليشيات بدل التنمية، وفي الكونغو الديمقراطية أصبحت المعادن النادرة وقودًا لصراعات ممتدة مع سيطرة جماعات مسلحة على المناجم، أما في أفغانستان فقد تحولت زراعة الأفيون إلى قاعدة اقتصادية للحرب، ما جعل الاقتصاد الرسمي عاجزًا عن المنافسة. هذه النماذج تبيّن أن استمرار اقتصاد الحرب أمر حتمي ما لم تُبنَ مؤسسات الدولة على أسس صارمة من الشفافية والمساءلة.

وعليه، فإن تفكيك اقتصاد الحرب في السودان يتطلب إعادة دمج الاقتصاد الموازي عبر إصلاحات قانونية وضريبية صارمة، وإعادة بناء المؤسسات المالية بحيث تستعيد الثقة وتستقطب التحويلات، إلى جانب محاسبة شبكات الفساد والتهريب عبر آليات قضائية ودولية تضمن استعادة الأموال والموارد. كما أن إنشاء صندوق سيادي لاستثمار موارد الذهب والتحويلات بعيدًا عن سلطة النخب الطفيلية قد يكون خطوة ضرورية لقطع دورة اقتصاد الحرب وفتح الطريق أمام إعادة الإعمار.

سبتمبر 2025

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.