أمد/
في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، اختار رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي أن يطلّ على العالم بلمسة غير مألوفة: رمز QR Code بارز على بدلته، داعيًا الجمهور لمسحه بالهواتف الذكية. للوهلة الأولى، بدا المشهد وكأنه حركة دعائية مبتكرة تستهدف لفت الانتباه وكسر النمط البروتوكولي للخطابات الأممية الثقيلة. لكن ما جعل هذه الحركة أكثر إثارة للريبة أنّها جاءت مباشرة بعد استعراضه لتفوّق جهاز “الموساد” في اختراق الأنظمة الإلكترونية، إلى حد بث رسائل دعائية على أجهزة الناس في غزة.
رسالة مزدوجة: بين الدعابة والتهديد
الربط بين التفاخر بالقدرات السيبرانية وبين الدعوة لمسح رمز مجهول المصدر ليس تفصيلاً عابرًا. بل هو رسالة مزدوجة: استعراض القوة أمام خصومه، وإيحاء بأن أبسط الأدوات الرقمية يمكن أن تتحول إلى أداة تجسس عابرة للحدود.
الـQR كأداة اختراق
رموز الـQR، التي ظهرت في التسعينيات كأداة سريعة للوصول إلى مواقع وروابط، تحوّلت اليوم إلى سلاح سيبراني محتمل. فالمستخدم حين يوجّه هاتفه لمسح الرمز يمنح الجهاز إذنًا مباشرًا لفتح رابط غير مرئي، وهو ما قد يفتح الباب أمام زرع برمجيات خبيثة قادرة على التحكم بالجهاز أو سرقة بياناته، أو إتاحة صلاحيات خفية تسمح بتتبع تحركات المستخدم وأنشطته، أو بناء قاعدة بيانات دقيقة عن المواقع الجغرافية والأرقام والأجهزة، يمكن استثمارها في الاستهداف الأمني أو الدعائي. الأمر أشبه بباب خلفي مفتوح على مصراعيه: ضغطة واحدة غير محسوبة قد تضع المستخدم، وربما مجتمعًا بأكمله، تحت المجهر.
رسائل سياسية في ثوب رقمي
اختيار نتنياهو لهذا الأسلوب داخل قاعة الأمم المتحدة ليس بريئًا، بل يعكس توظيفًا سياسيًا للتكنولوجيا في إطار رسائل متشابكة. فهناك رسالة ترهيب واضحة مفادها أن إسرائيل قادرة على الوصول إلى كل جهاز، حتى في أكثر البيئات المغلقة مثل قطاع غزة. وهناك أيضًا رسالة تسويق تستهدف تقديم صورة للغرب بأن إسرائيل تقود ميدان “الابتكار الأمني”، وأن الحرب المقبلة ستكون حرب عقول وأكواد، لا مجرد صواريخ ودبابات. أما البعد الدعائي فيتمثل في محاولة جعل الرمز أداة تفاعلية مع الرأي العام، لتضفي على الخطاب السياسي مظهرًا حداثيًا يتجاوز القاعات الأممية. لكن كل هذه الرسائل تصطدم بتناقض جوهري: ما يُسوّق على أنه إبداع تقني قد يُقرأ في الوقت نفسه كدليل على استعداد لاستخدام أبسط الأدوات المدنية في سياقات عدائية.
الفضاء السيبراني… جبهة حرب جديدة
لقد أصبح الفضاء الرقمي اليوم ساحة مواجهة موازية للميادين العسكرية. من الهجمات على البنى التحتية وشبكات الطاقة، إلى محاولات السيطرة على الرأي العام عبر أساليب “الهندسة الاجتماعية”، تتسع رقعة المعركة لتشمل كل جهاز محمول في يد مدني. وحين يستعرض رئيس وزراء الاحتلال قدرة بلاده على اختراق الأجهزة وبث الرسائل، فإنّه يقرّ ضمنيًا بأن المواطن العادي هو الهدف الأول. أي أن الحرب لم تعد فقط على حدود الجغرافيا، بل أيضًا على حدود الخصوصية الرقمية.
الفرد كخط الدفاع الأول
في مواجهة هذا المشهد، يبرز سؤال محوري: كيف يمكن للفرد أن يحمي نفسه من أن يكون حلقة ضعيفة في شبكة هجمات معقدة؟ اء في الأمن السيبراني يوصون بخطوات أساسية تبدأ من عدم مسح أي رمز QR غير موثوق، مرورًا بفحص الرابط قبل فتحه، وصولًا إلى استخدام تطبيقات حماية متخصصة. إنها قواعد بسيطة، لكنها قد تكون الفاصل بين أمان رقمي وخرق كامل للخصوصية. وكما يقال في هذا المجال: “الاختراق يبدأ من نقرة”.
دعاية سياسية أم مقدمة لحرب سيبرانية؟
ما قدّمه نتنياهو على منصة الأمم المتحدة لم يكن مجرد فقرة استعراضية، بل تجسيدًا لتحوّل نوعي في طبيعة الدعاية السياسية والأمنية. رمز صغير على بدلة زعيم يمكن أن يكون نافذة للتجسس، أداة دعائية، أو حتى مقدمة لحرب سيبرانية أوسع. وبينما يواصل قادة العالم جدالهم في القاعات الأممية، يظلّ القرار في جيب كل فرد: أن يرفع هاتفه ليمسح رمزًا مجهولًا… أو أن يختار الوعي والرفض. فالخطر لم يعد نظريًا، بل حاضرًا في أبسط تفاصيل حياتنا الرقمية.