الشباب ليسوا مجرد مرحلة عمرية أو فئة إحصائية ضمن أوراق السياسات، بل هم رمز الحياة، ومرآة الحلم، وبوصلة المستقبل. هم النبض الذي يقيس حيوية الأمة، وهم الطاقات الكامنة التي تترقب أن تتحول إلى فعل، وأن تنتقل من حالة الانتظار إلى حالة الإبداع والمشاركة. فيهم تكمن القدرة على إعادة كتابة تاريخ الوطن، إذا ما وجدوا الفضاءات والفرص التي تسمح لهم بالمشاركة والإبداع. فبالشباب يمكن أن نغيّر، وبالشباب يمكن أن نعيد صياغة الوطن، ونبني مشهداً اجتماعياً يتوازن بين الحلم والواقع، بين الكرامة والعدالة.
ما يحدث اليوم في الساحات ليس مجرد فعل احتجاجي عابر، بل هو لغة رمزية تنبثق من أعماق جيل كامل، تعبيراً عن موقف وجودي وسعي نحو تغيير حقيقي. الشعارات، والهتافات، واللافتات، وحتى الصمت في لحظات محددة، كلها رموز تقول إن الحلم بالمستقبل ما زال حيّاً، وأن الصوت لم يُمح بعد. هي لحظة استدعاء للعدالة، لكنها أيضاً استدعاء للمعنى. الاحتجاجات إذن ليست مجرد مطالب، بل دعوات لإعادة قراءة العلاقة بين الشباب والدولة، وإعادة تأسيس مفهوم المشاركة والمواطنة.
لقد كانت قضايا الشباب محور الاهتمام في السياسات الوطنية، إذ لم يكن النظر إليهم باعتبارهم موضوعاً للتدخل فحسب، بل كشركاء في بناء المستقبل. فالمبادرات التي تناولت التعليم والتكوين، وتوسيع الفرص الاقتصادية، ودعم روح المبادرة، لم تكن إجراءات تقنية فقط، بل كانت نصوصاً فعلية في خطاب الوطن نحو الشباب. وفي هذا الاهتمام بعد رمزي، إذ يعترف بأن الشباب هم صانعي المستقبل، وأن الإبداع جزء لا يتجزأ من الكرامة الوطنية.
لكن الواقع يضع أمامنا علامة استفهام كبرى: غياب الفضاءات المؤسسية الفعلية التي يمكن أن تجعل الشباب فاعلين في القرار. هذا الغياب ليس مجرد نقص تنظيمي، بل هو إشارة رمزية إلى أن العلاقة مع الشباب تحتاج إلى إعادة تأسيس. الاحتجاج إذن ليس رفضاً، بل هو صيغة سؤال وجودي: كيف نريد أن نصوغ حضور الشباب في مشروعنا الوطني؟ وكيف يمكن أن نحول لغة الاحتجاج إلى مشروع بناء؟
في هذا السياق، يصبح من الضروري أن تتكامل أدوار المؤسسات المنتخبة، والحكومة، والأحزاب السياسية، وجمعيات المجتمع المدني، والفضاءات التعليمية والجامعية، في بلورة سياسات مندمجة للشباب. هذه السياسات ليست مجرّد برامج أو مشاريع، بل رؤية شاملة تتضمن التعليم، والتكوين، وفرص التشغيل، والحقوق الثقافية والاجتماعية، وتشرك الشباب كشركاء حقيقيين في صياغتها وتنفيذها. فالمنتخبون مطالبون بتحويل الوعود إلى أفعال ملموسة، والحكومة مدعوة لتفعيل هذه السياسات، والأحزاب ملزمة بإدماج قضايا الشباب في برامجها، والمجتمع المدني مدعو لإثراء النقاش ومراقبة التنفيذ، والفضاءات الجامعية والتربوية ضرورة لإنتاج معرفة نقدية وفتح آفاق جديدة للحوار.
وهنا تكمن قيمة الدعوة إلى خلق فضاءات للنقاش العمومي، حيث يصبح الحوار حول السياسات المندمجة للشباب مشروعاً مجتمعياً يتجاوز الممارسات التقليدية، ويتحول إلى فعل جماعي يربط بين الدولة والمجتمع، بين المؤسسات والسياسات، وبين الرؤية والتطبيق. إن هذه الفضاءات ليست رفاهية، بل هي شرط أساسي لاستشراف المستقبل، ولبناء مشروع وطني جديد يقرأ الشباب كقوة إنتاج لا كموضوع للتدخل.
الاحتجاجات اليوم، بصورها وأشكالها المختلفة، تحمل رسالة واحدة: الشباب يريدون أن يُسمع صوتهم، وأن يُترجم حضورهم إلى فعل ملموس. إنهم يطلبون خطاباً جديداً، خطاباً صادقاً يقرأ الواقع، يعترف بالمشاكل، ويقدم خريطة طريق واضحة. خطاباً يفتح لهم أبواب المشاركة الحقيقية، ويجعل منهم شركاء في القرار لا مجرد متلقين له. إنهم لا يطلبون وعوداً معسولة، بل يريدون أفعالاً تُعيد لهم الثقة بأن حاضرهم ليس هامشاً، وأن المستقبل لهم فيه حصة أساسية.
في العمق، ما يطرحه الشباب اليوم ليس فقط سؤالاً عن الحقوق أو الفرص، بل سؤالاً عن المعنى: ما موقعهم في الوطن؟ وهل يمكن أن يكون حضورهم الفعلي جزءاً من بناء هوية جديدة لهذا الوطن؟ إن الاحتجاجات ليست مجرد صرخة ضد الظلم، بل هي دعوة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي، لتكون الكرامة والمساواة والمشاركة أعمدة هذا العقد.
الشباب، إذن، ليسوا طرفاً هامشياً في المشهد الوطني، بل هم في قلب السؤال الكبير عن مستقبل الأمة. وصوتهم في الساحات ليس رفضاً للوطن، بل دعوة له أن يعيد النظر في العلاقة معه، وأن يفتح أمامهم أبواب المشاركة الحقيقية. إن مستقبل المغرب لن يُبنى إلا إذا تحوّل حضور الشباب من صوت احتجاج إلى فعل بناء، ومن مطالب إلى مشروع مشترك، يجعل منهم شركاء حقيقيين في صناعة الوطن.
وهكذا، يصبح كل هتاف، وكل لافتة، وكل خطوة في الشارع جزءاً من لغة جديدة للوطن، لغة تعيد كتابة معنى الانتماء، وتحوّل حضور الشباب إلى قوة إبداع ورمز للكرامة، وهو الوطن نفسه يفتح باب المستقبل.
المصدر: العمق المغربي