أمد/ في بلدةٍ تتكئ على التلال وتتنفس من بين أشجار الزيتون، وُلد مشروع حمل اسم “جذور الثبات”. كان الحلم بسيطًا: جدران حجرية تُقاوم الانجراف، أشجار مثمرة تُقاوم الزوال، وآبار ماء تحفظ الحياة من العطش. كان كل شيء يعد بأن الأرض ستبقى للأرض، وأن الصمود سيصير حقيقةً راسخة.

لكن، كما في كل حكاية، كان ثمة ظلٌ ثقيل يتربص.

ظهر رجالٌ يبتسمون بكلمات كبيرة عن الوطن والأرض، لكن جيوبهم كانت أوسع من قلوبهم. كانوا يعرفون كيف يلوّنون الكلام، وكيف يبدّلون الخرائط، حتى تحوّل المشروع إلى لوحة على الورق، وصار اسمه يتردّد في الخطابات أكثر مما يظهر في الحقول.

صاحب الفكرة، رجل عُرف بين الناس بـ الزارع، كان يرى الأرض كأمّ، يغرس فيها الأمل كما يُغرس النبت في التراب. لكن حين أصرّ على أن يسير المشروع وفق ما وُضع له، اجتمعوا عليه في الخفاء. في ليلةٍ لم يكتمل فيها القمر، صدر قرارٌ بفصله. خرج الزارع من البوابة مرفوع الرأس، فيما دخلت الأموال إلى طرقٍ لا يعرفها سوى التجار الجدد الذين حوّلوا الصمود إلى صفقات، والجدران إلى فواتير، والآبار إلى أوراق مختومة.

المشهد لم يتوقف عند هذا الحد.

في موسمٍ آخر، أُعلن مشروع جديد تحت لافتة باذخة: “إصلاح الأرض”. لكنّ الأرض لم تُصلح، بل امتلأت الأوراق بأسماء وهمية لأشخاص لم يرهم أحد في الحقول. كانت الأموال تُوزّع كما يُوزّع السراب على العطشى، وكلما حاول أحدٌ أن يكشف المستور، وجد أمامه جدار النفوذ، جدار لا تهزه المحاكم ولا اللجان.

ظهر رجالٌ آخرون، أصحاب ضمائر حيّة، حاولوا أن يدقّوا أبواب العدالة. حملوا الملفات إلى دار الحكم، حيث يفترض أن تُسمع الشكاوى وتُفتح الدفاتر. لكن الملفات نامت في الأدراج، كما ينام حجر في قاع نهر. كانت هناك أيادٍ عليا تُغلق الأبواب وتُجمّد القضايا، لأن الحاضنة كانت أقوى من الحقيقة، تحمي أبناءها الفاسدين كما تحمي الأم وليدها.

أما الناس، فقد ظلوا ينظرون إلى الأرض التي لم تُزرع، وإلى الآبار التي لم تُحفر، وإلى المال الذي تبخر. صاروا يتهامسون:

“أين الجدران التي وُعدنا بها؟”

“أين الأشجار التي ستمنع المستوطن من التمدد؟”

لكن الأصوات بقيت همسًا، إذ إن الخوف من الحاضنة كان يُخرس الكثيرين.

هكذا تكررت الحكاية وتكررت وتكرر حتى صار الفساد غابة معتمة، كلما قُطع غصن منها نبت غصن آخر أكثر اعوجاجًا. وصار للفاسدين وجوهٌ مبتسمة في النهار، وملفات مطموسة في الليل، وطرقٌ معبّدة بالنفوذ والصفقات.

وفي كل ذلك، بقيت الأرض تنتظر.

انتظرت من يحمل معول الحق بدلًا من فواتير الصيانة الوهمية، ومن يغرس شجرة حقيقية بدلًا من شجرة على ورق، ومن يحفر بئرًا يروي العطشى بدلًا من بئرٍ من وعود.

لكن الأمل، وإن ضاق، لم يمت. فقد ظلّت أصوات الزارع وأصحابه تهمس في الحقول:

“لن يبقى الفساد إلى الأبد. الأرض تعرف أبناءها، وتعرف من يبيعها ومن يحميها. ولأن جذور الزيتون أعمق من كل فساد، سيأتي يومٌ تُكسر فيه حواضن الظلام، ويعود الصمود إلى مكانه الصحيح.”

شاركها.