التعافي المؤجل: أثر الحرب والاقتصاد الموازي على مستقبل السودان

عمر سيد أحمد

المقدمة

منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، يعيش السودان أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث. الصراع المسلح لم يكتفِ بتدمير البنية التحتية وتشريد الملايين، بل ضرب قلب الاقتصاد، من الزراعة إلى التجارة، ومن المالية العامة إلى العملة الوطنية.

الانهيار الاقتصادي بالأرقام

في يوليو 2025 أصدر المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية دراسة اعتمدت على نموذج التوازن العام القابل للحوسبة (CGE) لقياس أثر الحرب على الاقتصاد السوداني. يقوم النموذج على قياس الترابط بين القطاعات (الزراعة، الصناعة، الخدمات، التجارة الخارجية، المالية العامة)، واعتمد على مصفوفة الحسابات الاجتماعية (SAM) المبنية على بيانات 2022 كأساس. وقد أُدخلت في النموذج صدمات الحرب المتمثلة في دمار البنية التحتية، تراجع الصادرات، انهيار النظام المصرفي، وفقدان الإنتاج الزراعي والصناعي.

النتائج الرئيسة: انكمش الناتج المحلي الإجمالي من 56.3 مليار دولار في 2022 إلى 32.4 مليار دولار بنهاية 2025، أي تراجع بنسبة 42%. فقد السودان أكثر من ثلث ناتجه الزراعي والصناعي بسبب الحرب، مع خسائر مباشرة في  قطاعات الإنتاجية تفوق 90 مليار دولار   (AfDB، يوليو 2025). تعطّلت أكثر من 60% من المنشآت الصناعية، وارتفعت البطالة إلى ما فوق 45%. تدهورت الخدمات العامة بنسبة تتجاوز 70%، وانخفضت الصادرات الزراعية والحيوانية بأكثر من 80% مع تصاعد تهريب الذهب (Transparency International، أكتوبر 2024). دخل

أكثر من 20 مليون سوداني إضافي في دائرة الفقر المدقع، ليصل إجمالي الفقراء إلى ما يزيد عن ثلثي السكان. (   WFP ، نوفمبر 2024)

الآثار القطاعية وفق النموذج

 الخدمات والمصارف: شلل شبه كامل؛ توقفت نحو 85% من فروع البنوك، وتعرضت مقار عديدة للنهب، ما أحدث أزمة سيولة وشللًا في النظام المصرفي (World Bank، يونيو 2024).

 الزراعة: تدمير مشاريع رئيسية مثل الجزيرة والنيل الأبيض وسنار، نزوح واسع للمزارعين وتخريب القنوات والمحالج والمخازن؛ خسائر مباشرة تجاوزت 20 مليار دولار (FAO، ديسمبر 2024).

 الصناعة: تضرر أو توقف أكثر من 60% من المصانع بسبب القصف وانعدام الوقود والكهرباء؛ خسائر تفوق 70 مليار دولار، وانكماش قاعدة التصنيع.

 النزوح والعمالة: نزوح أكثر من 10 ملايين شخص داخل وخارج السودان، ما أفقد الاقتصاد قوة عاملة ماهرة ورؤوس أموال صغيرة    (UNHCR، 2024).

 النقل والتوزيع: توقف الحركة البرية بين العاصمة والولايات بنسبة تزيد عن 70%، وازدحام لوجستي في بورتسودان رفع كلفة السلع وأجج التضخم  غرفة النقل السودانية، 2024).)

الصحة والتعليم: خروج أكثر من 17 مليون طفل من المدارس وانهيار أكثر من 70% من المستشفيات مع تفشي الكوليرا  والضنك   UNICEF، نوفمبر 2024

الأمن الغذائي: نحو 25 مليون شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، و33 مليونًا يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة

الذهب: المورد المفقود.. منجم في قلب الحربا

يمتلك السودان واحدًا من أكبر احتياطيات الذهب في إفريقيا، ويُقدَّر إنتاجه السنوي في نطاق 100120 طنًا وفق تحليلات مستقلة، بينما تراوحت التقديرات الرسمية والإعلامية لعام 2024 بين 64 طنًا (تصريح الشركة السودانية للموارد المعدنية) و80 طنًا (تقديرات Financial Times). المشكلة الجوهرية تكمن في أن 7080% من الإنتاج يُهرَّب وفق تقارير موثوقة (Chatham House, 2023؛ Swissaid, 2024)، وتشير تقديرات إلى تدفقات يومية عبر مصر تتجاوز 100 كجم/يوم، أي أكثر من 60 طنًا منذ بداية الحرب، ما يحرم الخزينة العامة من مليارات الدولارات سنويًا
ومع اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، لم يتراجع التهريب بل تضاعف تعقيده، وتحول إلى شريان تمويل رئيسي للأطراف المتحاربة.

الصادرات الرسمية المباشرة إلى الإمارات

رغم النزاع، استمرت حركة تصدير الذهب عبر القنوات الرسمية:
2023. استوردت الإمارات نحو 17 طنًا من الذهب السوداني، بقيمة تفوق 1 مليار دولار وفق بيانات الأمم المتحدة وتحليل. Chatham House.

2024 بحسب سلطات بورتسودان، بلغت الصادرات الرسمية من مناطق سيطرة الجيش نحو 27.96 طنًا (1.5 مليار دولار)، ذهب 97% منها مباشرة إلى الإمارات. SMRC, 2024)) الإجمالي الرسمي المباشر خلال عامي 2023 و2024 بلغ نحو 45 طنًا بقيمة تتجاوز 2.5 مليار دولار

مسارات التهريب… مصر بوابة الذهب إلى دبي

لكن الصادرات الرسمية ليست سوى جزء من القصة. إذ توثّق تقارير Chatham HouseوSwissaid ووسائل إعلام دولية مثل AlMonitorأن كميات ضخمة من الذهب السوداني تُهرَّب عبر مصر إلى الإمارات. وتُظهر بيانات UN Comtradeالأرقام التالية:

  • 2023: أعادت مصر تصدير نحو 16.48 طنًا من الذهب إلى الإمارات، بقيمة تقارب 1 مليار دولار.
  • 2024(ينايرأكتوبر): ارتفع الرقم إلى نحو 41.14 طنًا، بقيمة تجاوزت 2.06 مليار دولار.

إجمالًا، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 60 طنًا من الذهب السوداني خرج عبر شبكات التهريب منذ بداية الحرب حتى نهاية 2024، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف الصادرات الرسمية تقريبًا

إنتاج يذهب إلى جيوب ضيقة

رغم هذه الأرقام الضخمة، لم ينعكس الذهب على الاقتصاد الوطني أو على العملة، إذ ظل معظم الإنتاج خارج الدورة الرسمية. فحتى مع تقدير الإنتاج الكلي لعام 2024 بما يتجاوز 6480 طنًا، فإن أكثر من نصفه تم تهريبه عبر قنوات غير شفافة، ما عمّق أزمة النقد الأجنبي ورسّخ “الدولار الذهبي” كآلية تسعير موازية تزيد من التضخم.

رغم هذه الأرقام الضخمة، لم ينعكس الذهب على الاقتصاد الوطني أو على العملة، إذ ظل معظم الإنتاج خارج الدورة الرسمية. فحتى مع تقدير الإنتاج الكلي لعام 2024 بما يتجاوز 6480 طنًا، فإن أكثر من نصفه تم تهريبه عبر قنوات غير شفافة، ما عمّق أزمة النقد الأجنبي ورسّخ “الدولار الذهبي” كآلية تسعير موازية تزيد من التضخم.

الاقتصاد الموازي: شبح يُربك الحسابات

يظهر الاقتصاد الموازي بوضوح في مفارقات الأرقام والوقائع. ففي الوقت الذي سجّل فيه السودان إنتاجًا رسميًا للذهب لا يتجاوز 17 طنًا في 2023، تشير التقديرات إلى تهريب ما بين 40 و60 طنًا سنويًا خارج القنوات الرسمية. وعلى مستوى الإيرادات، تعتمد الدولة على الضرائب والرسوم القانونية، بينما تستحوذ الشبكات الموازية على جبايات ورسوم غير رسمية تُفرض محليًا لصالح جماعات مسلحة أو سلطات أمر واقع. أما التجارة، فبينما تمر الصادرات الرسمية عبر ميناء بورتسودان، يسيطر الاقتصاد الموازي على مسارات التهريب الممتدة عبر تشاد وجنوب السودان وليبيا. وفي جانب العملة، يواصل بنك السودان إدارة السياسات النقدية الرسمية، لكن السوق السوداء وتجار العملة والصاغة يفرضون واقعًا آخر يحدد أسعار الصرف ويغذي دوامة التضخم.

لم يعد التهريب مقتصرًا على الذهب وحده؛ فقد تمدد الاقتصاد الموازي ليشمل الوقود والسلع والتحويلات وحتى الجبايات الداخلية. وتشير المعطيات الميدانية إلى أن الأنشطة الموازية قد تشكّل أكثر من نصف النشاط الاقتصادي الفعلي، لكنها تبقى خارج نطاق الإحصاءات الرسمية والضرائب الحكومية.

على مستوى التضخم: سيطرة السوق السوداء على الذهب والعملة توسّع الفجوة مع السعر الرسمي وتغذي دوامة الأسعار.
على مستوى المالية العامة: تفقد الدولة مليارات الدولارات من الرسوم والضرائب لصالح شبكات محلية وإقليمية مرتبطة بأمراء الحرب.
على مستوى التجارة: تتفتت السوق الوطنية إلى أسواق محلية خاضعة لقوى مسلحة، ما يرفع كلفة النقل ويضرب تكامل الاقتصاد.
على مستوى الثقة: يتراجع دور النظام المصرفي، ويتزايد الاعتماد على النقد الورقي والقنوات غير الرسمية، ما يعمّق العزلة المالية

الخسائر البشرية والإنسانية

تكشف التقديرات الميدانية والدولية عن حجمٍ صادمٍ للخسائر. فوفقًا لتقارير مجلس اللاجئين النرويجي (NRC) والكونغرس الأمريكي، فقد تجاوز عدد القتلى منذ اندلاع الحرب 150 ألف شخص بين قتل مباشر وموت بفعل الجوع والمرض والنزوح.

أما النزوح الداخلي فقد تخطى 11.5 مليون شخص، ليصبح السودان أكبر أزمة نزوح في العالم بحلول 2025 (IOM/DTM 2025).

في قطاع التعليم، تشير اليونسكو إلى أن من بين 17 مليون طفل في سن الدراسة، لم يتمكّن سوى نحو 3 ملايين من العودة إلى المدارس بحلول أغسطس 2025، أي أن أكثر من 13 مليون طفل ظلوا خارج العملية التعليمية (UNESCO 2025؛ Save the Children عبر ReliefWeb 2025).

أما القطاع الصحي فقد انهار بشكل شبه كامل، مع تسجيل أكثر من 113,600 إصابة كوليرا وما يزيد على 3,000 وفاة، إلى جانب تفشيات واسعة لحمّى الضنك (2025)

لا تعافٍ إلا بوقف الحرب

وقف الحرب أولًا: أي حديث عن التعافي الاقتصادي قبل وقف إطلاق النار يظل مجرد إدارة للانهيار لا خروجًا منه.

توحيد السلطة الاقتصادية: إخضاع كل موارد الدولة لوزارة المالية، مع تحويل شركات المنظومة العسكرية إلى شركات عامة خاضعة للحكومة، وإغلاق نوافذ الاقتصاد الموازي المسلح.

حشد الموارد الذاتية: جعل الموارد الوطنية خاصة الذهب، الزراعة، والتحويلات القاعدة الأولى للتعافي، بحيث تتحول إلى مصادر تمويل تنمية وإعمار بدل أن تظل وقودًا للحرب.

إعادة تشغيل القوى المنتجة: عودة القوى العاملة والنازحين إلى دورة الاقتصاد، واستعادة خدمات الصحة والتعليم إلى مسارها الطبيعي.

استعادة ثقة المانحين: بعد تثبيت الداخل وحشد الموارد الذاتية، يمكن إطلاق مسار إعفاء الديون (HIPC) وتهيئة مناخ التمويل الميسّر من المؤسسات الدولية.

تأمين انسياب السلع: فتح الممرات التجارية والإنسانية وإزالة الجبايات غير الرسمية على الطرق.

إن التعافي الحقيقي يبدأ من هنا: وقف الحرب، توحيد القرار الاقتصادي، وحشد الموارد الذاتية أولًا. عندها فقط يصبح التفاوض على إعفاء الديون وعودة التمويل الدولي أمرًا ممكنًا، على أن يكون بشروط داعمة للإصلاح لا معيقة له.

هل من إمكانية للتعافي؟

التعافي الحقيقي يبدأ من وقف الحرب. بدونه، أقصى ما يمكن هو تثبيتٌ مؤقّت يخفّف الانهيار ولا يعكس الاتجاه.

في المدى القصير:
فتح ممرات إنسانية لتأمين الغذاء والدواء وكبح موجات التضخم المرتبطة بالندرة.
دعم الزراعة الموسمية بالبذور والأسمدة وتأمين مواسم الحصاد.
إدارة نقدية صارمة لتوجيه الإيرادات المحدودة للصحة والغذاء فقط.
نافذة شفافة للصرف لتقليص الفجوة مع السوق الموازي وجذب حصائل الذهب الرسمية.

في المدى المتوسط:
إبطاء تمدد الاقتصاد الموازي عبر اتفاقات محلية/إقليمية لوقف التهريب والجبايات غير الرسمية.
تنشيط قنوات التجارة الشرعية مع الجوار (مصر، تشاد، جنوب السودان) لإعادة شرايين النقد الأجنبي.

الخلاصة

السودان اليوم أمام معادلة قاتلة: اقتصاد رسمي ينهار واقتصاد موازٍ يتمدّد على حساب الدولة والمجتمع. الذهب، الذي كان يفترض أن يكون محركًا للتنمية، صار شريانًا لتمويل الحرب.

القاعدة الصريحة هي: لا تعافٍ دون وقف الحرب. يمكن لإجراءاتٍ جزئية كفتح الممرات الإنسانية، دعم الزراعة، وضبط تجارة الذهب أن تُبطئ النزيف، لكن التحول الحقيقي يبدأ فقط عند إسكات المدافع، وإعادة بناء الدولة، وتوجيه الموارد إلى الإعمار لا القتال.

المراجع

Chatham House, Sudan’s Gold and the Financing of Conflict, 2023.
Swissaid, ‘A Golden Mirage: Gold Flows from Sudan to Dubai’, 2024.
UN Comtrade Database, Gold Exports Sudan/EgyptUAE, 20232024.
Sudanese Mineral Resources Company (SMRC), Annual Report, 2024.
Financial Times, ‘Sudan’s Wartime Gold Production’, 2024.
AlMonitor, ‘Sudan’s Gold Smuggling Through Egypt’, 20232024.

* خبير مصرفي ومالي وتمويل مستقل

[email protected]

سبتمبر 2025

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.