ميراث الفشل لحقبة الإسلاميين بيت متهدم

خالد فضل

ما الوطن سوى البيت الكبير الذي يأوي إليه كل أبنائه، فإنّ تحقق ذلك صار وطناً بالفعل وإن لم يتحقق بات داراً خربةً مهجورةً يقطنها البوم وتنعق فوق أطلالها غربان الشؤم. وحرب السودان الراهنة مثل أمطار غزيرة أزالت الدهان الخارجي لتنكشف العورات وتبين التصدعات في جدران الوطن.

في الحقيقة منذ لحظة إعلان الاستقلال وميلاد السودان كبلد ذي سيادة ظهر خلل البنيان قبل أن يتناول الأسطوات وجبة الغداء بنهاية اليوم، لقد تمّ إغفال ركيزة أساسية في البناء وهي مطالب بعض أصحاب البيت بإعلان البلاد مستقلاً فيدرالياً ديمقراطياً. لم يكن الجنوبيون جزءاً من الترتيبات الدبلوماسية والسياسية التي قادت لنيل الاستقلال إنما ألحقوا في آخر اللحظات على وعد بالوفاء لمطلبهم البسيط ذاك. ولكن حدث التنكر للعهود سريعاً، وبدا مطلبهم مدعاة للتشكيك في نواياهم الانفصالية. وقد كانوا بالفعل منفصلين لعقود خلت ولكنهم آثروا الوحدة الوطنية وفق نمط يمنحهم الخصوصية في إدارة شؤونهم ضمن البيت الكبير فما الخطأ الذي ارتكبوه حتى يعاقبوا بالوصمة الانعزالية أو الانفصالية إن هم نادوا بالفدرالية. ثم الأدهى والأمر من ذلك أنّ الوحدة الوطنية المزعومة لم تقدم لهم ضمن مشروع واعٍ لإدارة التعدد والتنوع والاختلاف بل قدمت لهم كوجبة عسيرة الهضم مكونها الرئيس القسر والإكراه وفق تصور الوحدة التماثلية؛ أي أن يصبح الجنوبيون مثل بعض الشماليين في اعتماد الدين الإسلامي كمعتقد روحي واللغة العربية كلسان مبين والثقافة العربية الإسلامية كبديل لثقافاتهم (التافهة) فيما يرى العنصريون. قدمت هذه الوجبة على فوهات البنادق وقصف الطيران، فأبيدت قرى وقتلت أسر بأكملها وأحرقت ديار. ونشأت عقيدة العسكرية السودانية على روح الولوغ في محاربة بعض أبناء الوطن والتفنن في أبشع صور الإيذاء ليحظى أبطالها على النياشين والرتب تزيّن الكتوف. وما هكذا تبنى الأوطان في الواقع، وليس القهر سبيلاً لتثبت الأركان، فالاجتماع البشري ليصير شعبا أو أمّة أهم مطلوباته التوافق والرضا والطوعية، ولعل الرعاة في الفلوات لديهم أساليب لاستئلاف الشاة النافرة بدون استخدام السوط والعصا، فكيف بالإنسان يراد قسره بالبرميل المفخخ والبارود والكيماوي ليصير خاضعاً لذات غيره، وأنا من يستبطن الاستعلاء.

جرت محاولة جريئة لإصلاح الخطأ في اتفاقية أديس أبابا 72 1983 ولكن كان نقطة ضعفها تكمن في المركز الذي ساده نظام شمولي وطغى عليه حكم الفرد، وبمثلما نسج النميري الغزل في الاتفاق نقضه فيما بعد بإيعاز من تنظيم الإسلاميين؛ الذين رأوا في تقسيم الجنوب فسحة لتمديد نفوذهم عبر بعض عناصرهم هناك.

وعندما هجموا على السلطة مكراً وخداعاً  وانقلاباً في العام 1989م، بدأت حقبة جديدة في زعزعة جدران البيت الوطن، عمدوا إلى مؤسسات الدولة فأفرغوها من خيرة العناصر الكفؤة ليخلص لهم شأن إدارتها على الأهواء، وحولوا الحرب الأهلية من طبيعتها السياسية المطلبية إلى حرب دينية وجهاد ضد الكفار؛ وما الكفار إلا جزء من نسيج المجتمع السوداني، وكلما أوغلوا في التعبئة الدينية والعنصرية والجهوية زاد البيت تصدعاً والمجتمع تهتكاً وتشرذماً، فتلك طبيعة الأشياء وحال البشر عند الاجتماع، الوطن ليس اسماً يقال وكفى لكنه البيت الواسع الذي يأوي ويضم، ويشعر فيه الأبناء بالكرامة والانتماء، فما بالك بمؤسسات الدولة تصير إلى عدوة صريحة، تفتك وتقتل وتسفح الدماء وتزهق الأرواح يسندها ويشد من أزرها جمهرة من أبناء البلد الآخرين، إنهم إخوة أعداء في حقيقة الأمر فكيف يطيب تحت هذا السقف البقاء، اختار الجنوبيون الانفصال، انهار جدران في البيت وانكشف الغطاء.

لكن جماعة الإسلاميين لا ترى في ذلك خطراً، بل تنظر إليه بسرور، فالتقسيم والتشتت والاحتراب بين أبناء البيت الواحد مكسب للماكرين، وظفر للأنانيين وفي الناس خصال الجشع والشح والطمع مثلما فيهم صفات الخير والمروءة، والدولة تبنى على صالح القيم وخير المفاهيم وسداد البرامج ونجاعة القوانين، بيد أن كل ذلك مما يعوز تنظيم الإسلاميين، هم في غالبهم جماعة قرّبهم الطمع وألّف بينهم التمكين في النفوذ والثروات وممارسة  الهيمنة والاستفراد، ففي مشاركة الآخرين قيد على استباحة السلطة، ومن بين العناصر الأخرى القوي الأمين بحق وحقيقة لكنهم يريدونها لافتة يتم تحتها تنصيب اللصوص. وما أكثر اللصوص ممن ظلت تكشفهم من عجب حتى تقارير المراجع العام في حقبتهم التعيسة ولكن لا محاسبة أو محاكمة بل (تحلل) وتستر وحماية لكبار المجرمين وترقيات.

لم يعمدوا إلى حكمة الدولة في إدارة التباينات بل استغلوا جهاز الدولة لتعميق الهوة بين مختلف التعدديات، فصار الاجتماع البشري المتعدد مصدر قلاقل يزيدون نيرانها حطباً، ولنا في تجربة دارفور أسطع مثال. لنصل إلى مرحلة الفرز على القبائل وتصنيف الناس بصفة الوجه الغريب، وكيف يكون ابن الوطن غريباً عنه عند انفجار الشجار.

الحيثيات والوقائع تحمّل هذا التنظيم وعثاء ما يلاقيه السودانيون/ات من ويلات، فإن عادوا لسلطة ونفوذ وواصلوا سيرة الخبث والمكائد، لم يعد في الوطن ما يحقق لأحد رضا الانتماء، فالناس أحرار لا يقبلون قيود العبودية ولن يرضون بالإذلال، إنّ البلد ليس ضيعة خاصة وملك عين لعناصر هذا التنظيم، ليس حاكورة لقائد الجيش أو مليشياته، حتى يقرروا ما يريدون وما لا يريدون، الوطن بيتنا كلنا، من حق أي فرد فيه أن يعيش موفور الكرامة كامل الحقوق، هنا تكمن مشروعية الكفاح بمختلف الوسائل، طعم الظلم واحد وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهنّد.

فإما أن يكون الوطن يسع لجميع أهله أو لا وطن تلك معادلة الحقيقة التي يتحاشاها نفر من  الشعب ولكل الحق في الاختيار، انتهى زمن السكوت والدسدسة والغتغتيت. لا قداسة لمؤسسة بزعم الوطنية بل محاسبة على دائر المليم، لا غفران للمجرمين إلا في إطار مصالحة وطنية شاملة بعد كشف الحقائق والمصارحة وطلب العفو ولا إفلات من العقاب. تلك سكة ظاهرة ودرب عديل ومقياس ومعيار لكل الناس دون تمييز، هذا درب التأسيس القويم لوطن يصبح بالحق بيتاً كبير.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.