شغف اللعب على المنصب العام دون أهلية

وجدي كامل

 

منذ القدم ظل المنصب العام في المخيلة السياسية العامة يرتبط بالتكليف لا بالتشريف، وبالعبء لا بالزينة. لكن يبدو أن هذا التصور، وفي بلد كالسودان، قد سار عكس تيار تلك الفكرة منذ لحظة الاستقلال، فأضحى المنصب العام وكأنه مجرد لعبة لأطفال شغوفين بنيله دون توفير أدنى القواعد لمنافسة نزيهة وشريفة، تخضع لفهمٍ واستيعابٍ أن الوظيفة العامة خدمة وليست غنيمة.

 

وفيما عدا القليل من المراحل السياسية التي شكلت العدالة النسبية فيها حضوراً في نيل المناصب العامة، تعرّض السودان لأوسع تجارب الهزل واللعب بالمعايير المطلوبة. وما من شك أن سلطة الإخوان المسلمين “الإنقاذ” قد عمّقت تلك الظاهرة عن طريق إعلاء شرط التمكين محل الكفاءة. وإلى ما بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١، ومع اندلاع الحرب، عادت الظاهرة ولكن بمعايير “المصلحة السياسية” لإضفاء شكلٍ من الشرعية المدنية على الحكم العسكري الإخواني.

 

في تجربة تعيين السيد كامل إدريس ينهض المثال؛ إذ تجسّدت وضعية من التعيين أطاحت بكافّة التقاليد القديمة، عندما تمّ تعيين رجل ظل يبحث بأي ثمن سياسي عن المنصب، بغض النظر عن طبيعة العرض ومتطلباته. رجل غالباً ما امتهن ذات النهج حتى بلغ منصبًا رفيعًا في منظمة أممية مرموقة، دون أن تتضح للرأي العام السوداني حتى الآن تفاصيل ما جرى في ذلك الخصوص ولا طبيعة ما أنجزه هناك. فالغموض ظل يحيط بتلك المرحلة بما تخلله من أسئلة عن نزاهة المنافسة وشفافية التعيين، وما إذا كان للفساد الدولي الخفي دور في ذلك الصعود المثير للريبة.

 

غير أن الضربة القاصمة جاءت حين تكشّفت سلسلة من وقائع التزوير: شهادات دراسية مشكوك فيها، جامعات وهمية، وسنّ جرى التلاعب به لتجميل صورة باهتة. ومع ذلك، لم يتراجع الرجل عن شغفه بالمناصب، بل اختار أن يضع نفسه في قلب المشهد السوداني المأزوم، طامحًا هذه المرة إلى منصب رئيس الوزراء، وكأن المنصب ذاته غاية في حد ذاته، لا وسيلة لإدارة الدولة وحل أزماتها.

 

النتيجة لم تتأخر. فما إن اصطدم رئيس الوزراء “المعيَّن” بالواقع المرهق لبلد يعيش حربًا طاحنة، حتى ظهرت هشاشة التجربة، وانكشفت عورة الادعاءات. وما زيارة السعودية وما رافقها من فضيحة بروتوكولية إلا مظهر من مظاهر الأزمة الأكبر: غياب الأهلية، وانعدام الكفاءة، واضطراب الرؤية.

 

القضية إذن لم تعد في شخص بعينه، وإنما في نمط بات يتكرر: سياسيون يسلكون دروب الحرب والانقسام لانتزاع مكاسب شخصية، مستغلين غياب المؤسسات الديمقراطية والشفافية. وهذا يفتح الباب واسعًا أمام سؤال مقلق: ألا يجدر بنا أن نعيد النظر في الصحة النفسية والعقلية لكل من يتولى أمر البلاد؟ أليس الخطر الأكبر أن تتحول المناصب إلى ملاعب يتلهّى فيها “أطفال كبار” يفتقرون إلى النضج والمسؤولية؟

 

إن المأساة الحقيقية ليست في وجود شخصية واحدة تعثرت، بل في منظومة بأكملها تسمح بتكرار النموذج. وإذا لم يُعَد تعريف المنصب العام باعتباره مسؤولية ضخمة تتطلب الكفاءة والنزاهة، فإن السودان سيظل أسيرًا لأطماع الطفولة السياسية التي لا تشبع من اللعب على المناصب، دون أدنى اعتبار لمخاطر ما يولده ذلك على الأداء التنفيذي والمصلحة العامة. غير أن المستفيد الفعلي من هذه الحالة من التحايل على المنصب العام هي الجماعات العسكرية والمدنية الحاكمة من خلف ستار، عندما تستهدف التحكم في صناعة القرار بأيادٍ وكيلة تنوب عنها في ارتكاب أبشع الخروقات والتجاوزات.

 

الآن، ومع تفشي غياب الرقابة والفساد الإداري والسياسي في أجواء استمرار الحرب، يغدو تبوؤ المنصب العام دون أهلية أمرًا لا يحدث عن طريق الصدفة، بل تقف وراءه أسباب متعددة، يمكن تلخيصها في محاور رئيسية:

1. المحسوبية والوساطة (الزبونية):

حين تُقدَّم العلاقات العائلية أو القبلية على الكفاءة والخبرة، يُعيَّن أشخاص غير مؤهلين فقط لأنهم “مدعومون”.

2. الفساد المالي والإداري:

شراء المناصب أو استخدام الرشاوى والنفوذ المالي للوصول إلى مواقع القرار، وهو ما أدخل الوظيفة العامة في سوق المشتروات.

3. تجاوز وغياب المعايير الواضحة للتعيين، وخاصة معيار التأهيل الأكاديمي، الذي تستفيد منه الحركات المسلحة والأفراد الطامحون للمناصب عبر بوابة الولاء السياسي أو الموقع المناصر للجيش في هذه الحرب.

4. ضعف المؤسسات الرقابية:

غياب أجهزة قوية لمراقبة التعيينات ومحاسبة المسؤولين، مما يجعل من يملك السلطة يوزع المناصب على الموالين أو المقربين دون خوف من العقاب.

5. الاعتبارات السياسية:

اختيار شخص غير مؤهل لإرضاء تيار سياسي أو جماعة معينة كجماعة الإخوان المسلمين هو الغالب في هذه السلطة المغتصبة بواسطة السلاح والحرب والحكومة غير الشرعية، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة.

6. الثقافة الاجتماعية السلبية وضعف الوعي الشعبي:

صناعة ثقافة ترى المنصب غنيمة أو “حقًّا”، مما يؤدي إلى ضعف الأداء المؤسسي، وإهدار الموارد، وتفشي الفساد بصورة أوسع، إن لم تكن مطلقة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.