هل تساءلتَ يوماً كيف يُمكن لجُملة ركيكة أن تتحوَّل إلى “إنجاز القرن” من فم “سياسي صغير” يظن نفسه بطلا تاريخيا؟ وهل خطر على بالكَ أن” المثقف الكرتوني” يستطيع أن يحوّل مقولة محفوظة من الإنترنت إلى “إشراقة فكرية” تخدع المريدين وكأنهم أمام نيتشه أو أفلاطون؟ وماذا عن “الخبير العظيم” في كل شيء، الذي يربط بين الاقتصاد والفلسفة والطقس والسياسة وكأن الكوْن كله بحاجة إلى تفسيره الفريد؟ كيف يتحول الضجيج والكلمات المفتقدة للمعنى إلى هالة من العظمة في عيون الجمهور؟ وأين يكمن السرّ في قدرتهم على جعل الركاكة تبدو حِكْمة، والغموض دليلاً على العمق، والتظاهر بالمعلومة شعوراً بالسَّيطرة على العالم؟
السّياسي الصغير وجُمْلَتُه التي أرْعبت التاريخ
حين يخرج سياسي صغير من قمقمه الإعلامي ليقول جملة لا تتجاوز خمس كلمات، ويقفز على كرسيه منتشياً كما لو أنه فتح بلاداً جديدة، نُدرك أن البلاغة لم تذبل فحسب، بل دُفنت في مقبرة جماعية بلا شاهدة. يتوهّم السياسي الصغير أن أي كلمة، مهما كانت ضحلة وباهتة، تتحول إلى تاريخ بمجرد أن تُقال أمام ميكروفون رسمي. يا لهُ من خداع للنفس! فالكلمة لا تغدو بركاناً في الذاكرة إلا حين تكون صادقة، وقادرة على زلزلة الضّمائر. أما الجملة الرّكيكة التي تُقذف مثل زفرة واهنة، فلا تليق حتى بأن تُخطّ شعارا على جدار مُتآكل؛ لم يدرك السياسي الصغير بعدُ أن اللغة ميزان العقل والخيال والضمير، لأنه يظن أن الكلام مجرد لعبة، وأن صدى التصفيق يعادل فِعْلَ الفهم. يتخيل أن مجرد ظهوره على شاشة عملاقة يجعل أي تفاهة ينطق بها “حدثاً جللاً”، كأنه يعيد إنتاج مقولة: “أنا أتكلم، إذن أنا عظيم”؛ أيّ إهانة أفدحُ من أن تُساق اللغة في موكب الرّداءة، فتغدو لعبةً رخيصة بين يدي من لا يفرّق بين بناء الجمل، ويزيّن فراغه بالكلمات تحت لافتة “نظرية ثورية”.
هل قال “الشمس تشرق من الشرق”؟ نعم، لكن بلَحْنٍ مسرحي يجعله يظن أنه اكتشف دوران الأرض؛ كلما نطق جملة مُمِلة، ارتجف من حوله من فرط النّفاق، ودوّنها البعض في مذكراتهم كما لو كانت “وصية أرسطو الأخيرة”.
أما الصحافة فتستيقظ بكسل وتحوّل العبارة الركيكة إلى عنوان بارز بالبنط العريض: “السياسي الصغير يفاجئ الأمة بجملته التاريخية”. هكذا تتحول الركاكة إلى “معجزة”، والضحالة إلى “بُعد استراتيجي”. يا لسُخرية المشهد! إن الإنجاز الحقيقي ليس في تركيب جملة عرجاء، وإنما في القدرة على الفعل؛ لكن السياسي الصغير لا يملك سوى الكلمات الرّخوة التي تسقط من فمه كالماء العكر. ولو عاش في زمن الشعراء العظام، لكان موضع سخرية في الأسواق؛ كانوا سيرمونه بالتمر اليابس وهو يتلعثم في بيت شعري بلا وزن؛ لكنه يعيش في زمن التلفاز والميكروفونات، حيث تكفي جملة هزيلة لتصنع منه “بطلاً وطنياً”… ليوم واحد.
وفي الغد يكرر العبارة نفسها وكأنها آية سماوية، بيد أنها تذوب بسرعة في الهواء من غير أن تترك أي أثر يذكر. كلما أعادها ازداد فراغها بروزاً، حتى صارت مثل فقاعة صابون تتبخّر قبل أن تلمس السقف. المشكلة ليست في جهل السياسي الصغير فقط، وإنما في أولئك الذين يصفقون له بحرارة، تصفيقهم هو الأوكسيجين الذي يُبقي الوهم حياً.
كم هو مضحك حين يتصرف الصغار وكأنهم عمالقة، بينما عمالقة الفكر يرحلون بصمت، تاركين وراءهم تراثاً لا يحتاج إلى تصفيق.
لا يعرف السياسي الصغير أن الكلمات العظيمة لا تُصنع في المكاتب المكيفة، وإنما في لحظات الحقيقة التي تضع الإنسان أمام مصيره. لكن ما حاجتُه للحقيقة ما دام يملك جيشاً من المصفقين والمعلقين والمحللين الذين سيجعلون من الركاكة مادة دسمة لنشرات الأخبار؟ ستذكره الأجيال باعتباره صاحب إنجاز القرن، ونموذجاً كوميدياً لزمن غارق في التفاهة.
نعم، يا سادة، عندما يتفوَّه سياسي صغير بجملة ركيكة ويعتبرها إنجاز القرن، فإن ما نحياهُ ليس حدثاً تاريخياً، إنه مسرحية عبثية. والتاريخ، كعادته، سيكتب على الهامش بمداد أسود: هنا تكلم الصغير، فكان الصدى أكبر من صوته، والضحك أطول من عمره.
فلسفة المقاهي وبهلوانيةُ الكلمات
المثقف الكرتوني كائن غريب يسكن المقاهي الراقية أكثر مما يسكن الكُتب، يضع أمامه مجلداً ضخماً لم يقرأ منه سوى الغلاف، ثم يتأبطه كما يتأبط الفارس دِرْعَه، ويظن أن مجرد حمله يكفي ليعلن نفسه وريثاً لسُقراط أو ابن رشد. يلتفت يميناً وشمالاً بنظرة متعالية، يبتسم ابتسامة مُصطنعة، ويهمس بكلمات محفوظة من الإنترنت عن نيتشه وسارتر وديكارت، وكأنه هو الذي صاغ نصوصهم بمداد يده. غبطته الكبرى أن يواجه جمهورًا مرتبكًا بقوله: “ديكارت قال…”، ثم يلوذ بصمت محسوب، وكأنه يترك للفراغ أن يصفق له سرًا.
في داخله خواء لا يُحتمل، لكنه يحسن تغليفه بوَرَق لامع. يستخدم كلمات ينتقيها بعناية مثل “الباراديغم” و”الميتافيزيقا” و”الأنطولوجيا”، يضعها في جمل متشابكة مثل خيوط بيت العنكبوت، فيبدو كلامه غامضاً إلى درجة تجعل من الغموض نفسه دليلاً على العمق. هكذا يتحول اللبس إلى سلطة، والركاكة إلى عمق مصطنع.
أما إذا اعتلى الميكروفون، فإنه يستهل كلماته بالضبط كما يستهل ممثل مهزوز أداءه فوق خشبة مسرح تئن نصف مقاعده من الفراغ. يرفع حاجبيه، يلوّح بيديه، ويتحدث عن “أزمة الوعي”، ثم “أزمة القيم”، ثم “أزمة المناخ” وكأن العالم كله أزمة متواصلة تنتظر حكمته العظيمة. لا يقدم حلولاً ولا حتى أسئلة جدية، وإنما يكرر كلمات صنعتها نشرات الأخبار. ومع ذلك يقدَّم في الإعلام بصفته “مفكراً بارزاً” أو “محللا استراتيجيا” أو “رئيسا لمركز بحوث”، لأن الشاشات تحتاج دوماً إلى وجوه تتكلم، مهما كان ما تقوله ضجيجاً بلا معنى.
يعشق المثقف الكرتوني الغموض أكثر من الحقيقة، لأنه يعرفُ أن الحقيقة تُلزم صاحبها بالمساءلة والموقف، أما الغموض فيمنحه قداسة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها؛ كلما كان أكثر غموضاً كان أكثر “هيبة” في أعين المريدين الذين يتبعونه كأنهم أمام نبيّ يفسرُ لهم مصيرهم، لكنه في العمق مجرد ببّغاء أنيق، يكرر أقوال غيره ويضيف إليها لمسة مسرحية.
المفارقة أن هذا المثقف الكرتوني يظن أن تكرار الاقتباسات يجعلها ملكاً له، بينما التاريخ لا يرحم المقلدين. سيظل اسمه عالقاً مثل فاصل دعائي بين فكر حقيقي وفكر زائف، مجرد شخصية جانبية في مسرحية زمن التفاهة. وما إن يرحل الضجيج حتى يخفت صوته في رجعٍ عليل، وتتوارى صورته في ظل شاحب لرجل بدّد عمره بين فناجين قهوة، ظانّاً أن كل رشفة هي توقيع على ميلاد حكمة جديدة.
خبير في كل شيء… من غير معرفة حقيقية
هو خبير في السياسة والاقتصاد والصحة والفن والرياضة والفضاء، وفي أي شيء يطلب منه رأي فيه. إذا سألته عن الطقس سيبدأ بتحليل تاريخ المناخ العالمي، وإذا سألته عن الاقتصاد سيربطه بالكيمياء والفلسفة وكأن الكون كله يحتاج إلى تفسيره الفريد. كل تصريح له يُقدم على أنه اكتشاف علمي جديد، مع أنه غالباً مجرد إعادة صياغة لما قرأه في مقال صباحي أو شاهده في فيديو بالليل.
المضحك أنه غالباً ما يتناقض مع نفسه، يروِّج لمعلومة في دقيقة، ثم ينقضها في الدقيقة التالية، دون أن يشعر بأدنى حرج، لأنه يظن أن الغموض أداة، والاختلاف وسيلة لتأكيد عظمته. أما في وسائل التواصل، فإنه يختبئ خلف صورته البرَّاقة، يكتبُ تغريدات مُختصرة، لكنها تنم عن فضاء واسع من الأوهام. يعتقد صاحبنا أن المعرفة تُقاس بعدد الكلمات المنطوقة وسرعة نطق المصطلحات المعقدة.
كلما تحدث يكبر شعوره بالسلطة، ويكبر ارتباك المستمعين. في المؤتمرات يظهر دائماً على أنه صاحب الحق المطلق، يستخدم نظراته الثاقبة ليخيف الأسئلة، لأنه يتفنن في ربط أحداث عشوائية ببعضها، ويخلق سرديات معقدة لا معنى لها، ليظهر أمام الناس كمن كشف أسرار الكون بخمس جمل فقط.
عندما يُسأل عن مصدر معلومة يبتسم ابتسامة شاعرية ويجيب بجملة مثل: “تاريخ الإنسانية يثبت أن…”، وكأن كل شيء من صنعه هو، وليس مجرد ما قرأه أو شاهده. في المحاضرات يضع صوراً ورسوما بيانية مُزخرفة، لتبدو أفكاره كما لو أنها اكتشافات علمية، بينما هي مجرد تجميع معلومات متفرقة لا تؤسس لأي حقيقة علمية.
لا يملّ من تضخيم البديهيات، فيجعل من تفسير أبسط الظواهر عرْضاً مَهيباً، وكأن العالم أمام ميلاد نظرية جديدة. كل ما يكتبه، مقالاتٍ أو منشورات، لا يعدو أن يكون طقساً لتزيين وهم العظمة، فيما الكلمات خاوية والمعاني في عداد المفقودين. إنه مثقف بدون معرفة حقيقية، غارق في صورته المثالية، يبحث عن جمهور يصفق له على كلام فارغ مصدّقا أنه حكمة بليغة. وحين يعجز عن إقناع أحدهم يلجأ إلى حيلة أثيرة: أن يكسو فراغه المعرفي بعبارات فضفاضة، فيبدو كمن يبيع هواءً في قوارير ذهبية. وبهذا يتحوّل الخبير إلى مثقف مناسبات، يفتنه التصفيق أكثر مما يشغله البحث، فتغدو الثقافة لديه ديكوراً للكبرياء لا معبراً إلى التفكير.
عبث الكلمات وفخُّ المظاهر
وهكذا، بعد أن شاهدنا السياسي الصغير يرفع جملته الركيكة إلى مرتبة “إنجاز القرن”، ورأينا المثقف الكرتوني يُحوِّل الكلمات المحفوظة إلى مسرحية فكرية، واستمعنا إلى الخبير العظيم في كل شيء وهو يربط بين الكون والطقس والاقتصاد والفلسفة دون أن يفهم شيئاً، يبقى هناك سؤال أخير: هل كان كل هذا مجرد ضجيج أم عرض عبثي للظهور؟ ربما تكمن الحقيقة في أن العظمة لا تولد من كلمات عابرة ولا من غموض مُفبرك، وإنما من الأفعال التي تتجاوز الأضواء والتصفيق، ومن فَهْم لا يركنُ إلى المظاهر، بقدر ما يغوص في جوهر الأمور ليصنع الفرق بعيدًا… بعيدًا …. عن سوق النّفاق السياسي والثقافي حيث تُباع الأوهام بالتقسيط وتُشترى التصفيقات بالجُملة.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
المصدر: هسبريس