أمد/ إن الشعر يستطيع كل شيء،حتى عندما لا يستطيع شيئاً..
*ملحوظة هامة: هذا المقال جاء في شكل تحية إجلال وإكبار إلى شاعرين عربيين بارزين،الأول الدكتور طاهر مشي من تونس،والثانية شاعرة فلسطينية مغتربة الأستاذة عزيزة بشير..هذان الشاعران آمنا بقضية فلسطين وناضلا بقصائدهما لنصرتها،وتحولا بالتالي إلى صوت للضمير الجمعي،يعبران عن مشاعر الأمة بأكملها تجاه الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني،مما يجعل القضية حية في الوجدان العربي.
كلا الشاعريننحتابصمة لا تُمحى في تاريخ الأدب العربي من خلال إتقانهما للشعر ولغته،وانتصارهما المطلق للقضايا الإنسانية العادلة،وعلى رأسهاالقضية الأمفلسطين..ويُكرم هذا المقال المتواضعالإبداع الشعري تقديراً لجهودهما في إثراء اللغة والثقافة العربية.والتأسيس لغد مشرق ترفرف فيه رايات النصر المبين في سماء فلسطين..
الفعل الثوري العربي الذي تحقق في السنوات الأخيرة إبان إشراقات ما يسمى ب”الربيع العربي” لم يكن معزولا عن خطاب الشعر،مثلما لم يكن معزولا عن الخطاب الذي تنتجه وسائل الإعلام.لقد كانت القصيدة كامنة في وجدانات هؤلاء الشباب فعلى سبيل المثال كان الشباب يرددون أثناء الثورة قصائد محمود درويش وأحمد فؤاد نجم وغيرهم،كما استعادت الثورة التونسية وبعدها الثورات العربية الأخرى قصائد شاعر عظيم بقيمة أبي القاسم الشابي،حيث صدحت الحناجر في ساحات وشوارع وميادين مدن عربية عدة “إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلابد أن يستجيب للقدر”. فما هو دور الشعر في ثورات “الربيع العربي”؟
وهل ساهم في تأجيج مشاعر الثوار،أم أن الثورات قد شكلت مصدر إلهام للشعراء ولو على حساب القيمة الشعرية؟
وسؤال مغاير أقول: لماذا يجب على الشعراء (وأزعم أني واحد منهم) أن يكتبوا شعرا أو نثرا، عن الثورة؟ !
هو سؤال أبله كما ترون،ولكنه،ككل أبله،يلح في طلب إجابة شافية،وككل أبله لن ترضيه الإجابات المخاتلة،أو تلك المبنية على الركون إلى البدهيات والأعراف.
والوجوب المفترض عن الشعراءأو المفروض عليهم !هو إما نابع من ضمير الشاعر نفسه،من ضيقه بما احتشد في وجدانه من مشاعر وانفعالات صاخبة،لن تهدأ حتى يخرجها كلمات على الورق،أو أنه نابع من إحساس الشاعر بواجبه في التعبير عن مشاعر وانفعالات الآخرين ممن حرموا القدرة على الكتابة،وفي كلتا الحالتين يراد منه أن يكون اسهاما في الفعل الذي جرى على الأرضالثورة.
وكأني بالشاعر ما يزال يعتبر نفسه،ويعتبره الأخرون،صوت أمته،وضميرها الحي،الحامل لهمومها وأفراحها وآلامها،المعدّد لمناقبها،الممجّد لإنتصاراتها،الرائي لقتلاها،الشاتم لأعدائها…وربما هو كذلك،أو كان كذلك،في جاهلية انقضت (أو هكذا حسبناها !)،قبل أن تخرج الأمور عن مجرد نزاعات قبلية بالسيف والرمح عن مرعى وكلأ، وقبل أن تتعقّد العلوم والإختصاصات،فيتولى آخرون فيما بينهم تلك المهام التي كانت منوطة بلسان الشاعر وفصاحته،وأعني بهم علماء الإجتماع وعلماء السياسة وعلماء الإقتصاد وعلماء التاريخ وعلماء الحرب وعلماء النفس وعلماء الإعلام..حتى علماء الكلام !.
حضور الشعر في الثورات العربية:
يقول الشاعر المصري جرجس شكري عن حضور الشعر في الثورات العربية:”الشعر بصورته المباشرة كشعر وكقصائد،ربما لم يكن حاضرا بشكل مباشر.الأقوى من وجهة نظري هو حضور الشعرية في التجمع أو في ممارسات الثوار. الأفعال التي كان يمارسها هؤلاء،هي الشعر من وجهة نظري”. غير أن الشاعرة اليمنية ابتسام متوكل،رصدت حضورا شعريا قويا خلال الثورة اليمنية سواء أكان الشعر فصيحا أو عاميا أو شعر تفعيلة أو شعرا عموديا.
ويبدو أن قصيدة النثر لم تكن حاضرة بنفس شكل القصيدة الإيقاعية،وتقول الشاعرة اليمنية:” المجتمع اليمني مازال مجتمعا سماعيا ولهذا السبب،الإيقاع والعبارات الحماسية تحرك فيه الكثير،لذلك كانت الثورة اليمنية حافلة بالإنتاجات الشعرية،على مستوى الأغاني والقصائد والإصدارات أيضا”. وتضيف:” في تاريخ الثورات العربية كان الشعراء دائما في طليعة من قادوا الفعل الثوري التوعوي،ومازال هذا الفعل حاضرا في اليمن إلى اليوم ومنذ ثورتي 1962 و 1963″.
على سبيل الخاتمة:
أثارت الثورات العربية وخاصة الفلسطينية الكثير من الأسئلة حول دور الشعر والشاعر،وكيف يمكن لشاعر أن يصطف مع قاتل أو يتغاضى عن صرخات الضحايا ويغوص في كتابته إلى عالم الأحلام بعيدا عن الواقع؟
كما يثار سؤال آخر عن وسائل الإعلام التي صدّرت إلى الواجهة شعراء بعينهم لمجرد الموقف بعيدا عن السوية الشعرية.
ويشكك البعض في مستوى كثير من القصائد التي كتبت في لحظة الانفعال،ويبدي موقفه إزاء ضحالتها الفكرية وافتقادها للشاعرية،ويذكر أن القصيدة المنددة بالقتل لا توجب السباب أو الشعاراتية المباشرة.
وفي هذا السياق،هل يمكن للشعر أن ينهض بأي دور في زمن الثورة،وفي أزمنة الغمة؟
أي دور ذاك الذي يتأمّله المرء من الشعر في زمن الرغبة عن القراءة وتهميش الثقافة؟
هل للشعراء أي تأثير يذكر في العالم العربي؟ وهل ما زال الشاعر يمثل ضمير قومه ولسان حال شعبه،أم أن هناك مستجدات تفترض آليّات التعامل معها؟
تحية للنص المدهش الذي يعكس وجه الحياة المتجدّد،تحية للقصيدة المتشبثة بهويتها كقصيدة،فمكانها ومكانتها بقامة أبجديتها،وليس بمهارتها في استرضاء السلطة وتملقها،وإن كانت سلطة شعبية..
إن التطلعات كلها مشروعة أمام”ثورة الشعر” لتحلّق القصيدة في فضاء الحرية بأجنحتها وأسلحتها وجمالياتها الخاصة كظاهرة فنية أصيلة..
وهنا أقول : في ظل غياب موازين القوى العسكرية،تصبح القصيدة سلاحاً للمقاومة،تحافظ على الذاكرة،وتفضح الاحتلال،وتُحرّض على الثورة..( قصائد الشاعرين دطاهر مشي ( تونس) والشاعرة الفلسطينية الأستاذة عزيزة بشيرنموذجا)..هذان الشاعرانكما أشرتنقلا بقصائدهما الثورية تفاصيل المعاناة والتهجير والاستشهاد،مما يضمن أن تبقى قضية فلسطين حاضرة عبر الأجيال ولا تُنسى.
وباختصار،قصائد هذين الشاعرين الثوريين،في هذا السياق ليست مجرد كلام جميل،بل هي فعل مقاومة حقيقي،تساهم في المعركة لا بالسلاح،بل بالوعي والروح والمعنى.
ختاما،لا ينبغي أن نظلم الشعر،إذ من المؤكّد أن الأبيات الشهيرة لأبي القاسم الشابي وجدت سياقها الطبيعي في الشعب الذي أراد الحياة،فأستجاب القدر،وفي القيود التي انكسرت بمجرد الانتصار على الخوف،وإجبار طاغية على الفرار خوفاً من الشعب،لكننا سنظلم الشعر كثيراً إذا اعتبرناه مجرد حطب للثورة،إن الشعر يستطيع كل شيء حتى عندما لا يستطيع شيئاً..وقد قال الشاعران دطاهر مشي،والشاعرة الفلسطينية الفذة الأستاذة عزيزة بشير،ما يجب أن يقال..وتحول شعرهما* إلى رصاص ينطلق من الفم،والعقل،والقلب والدم..ليلهب المشاعر، ويوحّد الشعوب،ويبعث الأمل ويحفز على العمل والدعم..والإنتصار..
نماذج من قصائد الشاعرة الفلسطينية المغتربة الأستاذة عزيزة بشير:
كلٌّ يُقاطِعُ يا (غزّا ) فلا تَهِني
(وجدانُ) تونسَ رأسُ الكلِّ، تنتَصِرُ
كم قد صبرْنا على الأعداءِ تنهَشُكُم
يا صبر َغزّةَ ! نارُكِ في الحَشا شرَرُ
يا أمّةَ الأعرابِ هل جفّتْ مَوانِئنا؟
*************
أرَى نصْرَ( غزّةَ) قادِماً..وستَنْجَلي
أرَى نصرَ غزّةَ والهزيمةُ لِلعِدا
والنِّتنُ يُقهَرُ والبِلادُ..تعودُ لي
(غزّا )تُحاسِبُ كلَّ مُجرِمِ دَكَّها
وتقولُ للدّنيا انظُري..وَتأمّلي :
“أللهُ معْنا ناصِراً عَلى (نِتْنِهِمْ)
***********
“بعد أن قذف النّمرودُ سيّدَنا إبراهيم عليهِ السّلامُ في النار كان طيرٌ يملأ مِنقارَهُ ماء ويُلقي بهِ على النار فهل يَعتقدُ أنَه سيُطفئُها ؟ لا..ولكن لِيعملَ شيئاً يقدرُ عليه لإنقاذه..!
ألطّيْرُ فكّرَ أن يُساعِدَ مُبتَلًى
يَصْلى بِنارٍ علّهُ………………..يتَقرّبُ!
كيفَ السبيلُ ويعرُبٌ ملءُ الفضا
والنّار تعصِفُ والدّماءُ ……..تُخَضِّبُ ؟!
كلٌّ (بغزّةَ) يستغيثُ لِنجْدَةٍ
والدّمُّ يُسفَكُ والأسارَى ……….. تُعَذَّبُ
**نماذج من شعر الشاعر التونسي الكبير دطاهر مشي عن فلسطين
( نموذج من قصيدة بالعامية التونسبة)
فلسطين عربية وتبقى هي
رغم الخائن والرجعية
غزة من لوجاع تنين
وقلبي حزين
على حال عربنا راقدين
قنابل دفاقة
زرعوها في البر وهادة
كيف الصيادة
حتى م الجعبات ثنين..
*********************
نموتُ اليومَ في حرْبٍ ضروسٍ/وصدرُنَا في الوَغى قد بات دِرْعا/نلاقي الموت لا نَنْأى بِدربٍ
ونتلو مِن كتابِ اللهِ سَبْعا( 1)/رأيتُ الأهل يمشون الهُوَيْنا
لحَتْفٍ قادَهُمْ صُهيونُ جَوْعى/أبادوا طفلَنا معهُ نِساءٌ..
**********************
أقصَى*يُدنَّسُ والأرواحُ تُقتَتَلُ!
ألعيدُ يُقبِلُ والأحزانُ تَتّصِلُ
تكبيرُ،تسبيحُ والأخلاقُ وَالمُثلُ
أذكارُ للّهِ عند الصّبحِ تسمعُها
تُحيِي الفؤادَ وتُبْري مَن بِهِ عِلَلُ
ندعو الإلهَ ونَسْتجديهِ يحفَظُنا
يُحْيي قلوباً بِها الأوجاعُ تعْتَمِلُ
موْتٌ لوالِدِي والأعيادُ قد سَطعتْ
(غزّا) تُبادُ وفيهَا الخَطبُ يكتَمِلُ
رُحماكَ ربّي لتَرفقْ فيهما أبَداً
نصرٌ لغزّا،أبِي الجنّاتُ مُدّخَلُ