أمد/ بروكسل: في ظل استمرار الاعترافات الدولية بفلسطين خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، يبرز انقسام عميق داخل الاتحاد الأوروبي حول هذه الخطوة الحاسمة.

فقد أعلنت دول مثل فرنسا، إسبانيا، إيرلندا، البرتغال، بلجيكا، ولوكسمبورغ اعترافها بفلسطين هذا العام، لتنضم إلى قائمة تضم الآن 16 دولة أوروبية من أصل 27 تعترف رسميا بدولة فلسطين.

فرنسا

وعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالاعتراف بدولة فلسطينية عدة مرات منذ بداية حرب غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، لكنه أرجأ ذلك مرارًا وتكرارًا. ولكن فرنسا قامت بهذه الخطوة في 22 أيلول/سبتمبر الجاري من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقبل ذلك انتقد ماكرون عدة مرات وبشدة عمليات إسرائيل في غزة. ووصف الأزمة الإنسانية والعدد الكبير من الضحايا المدنيين بأنَّهما “غير مقبولين”. وباريس ترفض أيضًا أي شكل من أشكال التهجير القسري للفلسطينيين.

والرئيس الفرنسي يحدد موقفه كمدافع عن حل الدولتين. وبحسب رأيه لا يمكن أن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة تشارك في حكومتها منظمات مثل حركة حماس الإسلاموية المتطرفة المصنفة من قبل ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية كمنظمة إرهابية. وباريس تدعو إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، ووصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق لسكان غزة، وتحقيق الاستقرار في المنطقة. وكذلك تنتظر باريس من إسرائيل أن توقف توسيع المستوطنات في الضفة الغربية والتخلي عن جميع خطط ضمها المحتملة.

بريطانيا

كذلك أعلنت بريطانيا عن اعترافها بفلسطين كدولة مستقلة. ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يريد أيضًا مثل ماكرون التمسك بحل الدولتين. بريطانيا لديها تاريخيًا علاقة خاصة بمنطقة الشرق الأوسط: فقد كانت القوة الاستعمارية السابقة تدير فلسطين بموجب انتداب من عصبة الأمم. وفي سنة 1917 أصدر البريطانيون ما يعرف بـ”وعد بلفور” والتزموا بإنشاء “وطن للشعب اليهودي في فلسطين”. وانتهى الانتداب البريطاني في سنة 1948 بتأسيس دولة إسرائيل واندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى. وهذه الفترة ما تزال تؤثر حتى اليوم على العلاقة التاريخية والسياسية بين إسرائيل والفلسطينيين.

وبريطانيا تقدم منذ عقود مساعدات تعاونية تنموية في الأراضي الفلسطينية، مثلًا في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية والتنمية الاقتصادية.

إسبانيا

من الواضح جدًا أنَّ إسبانيا تدعم الجانب الفلسطيني؛ فمدريد اعترفت رسميًا بدولة فلسطين في أيار/مايو 2024، وهي أيضا ترى أن حل الدولتين هو السبيل الواقعي الوحيد لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط. وإسبانيا تعمل حاليًا على توسيع مساعداتها للأراضي الفلسطينية ماليًا ومؤسساتيًا قد تم مثلًا عقد أول اجتماع حكومي دولي مع ممثلي السلطة الوطنية الفلسطينية في مدريد، ونوقشت فيه مشاريع مشتركة في مجالي التعليم والعمل.

والمسألة الفلسطينية اعتُبرت منذ وقت مبكر في إسبانيا جزءًا من النضال العالمي ضد الاستعمار والقمع. وفي نهاية سبعينيات القرن العشرين، عندما كانت إسبانيا نفسها قد تحررت للتو من ديكتاتورية فرانكو ورسخت قيمها الديمقراطية، تشكلت العديد من الأحزاب والحركات اليسارية القوية التي تضامنت مع حركات التحرر المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم وكذلك مع الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي.

والحكومة الإسبانية تؤكد على أنَّ اعترافها بفلسطين كدولة غير موجه ضد إسرائيل. ومدريد تعترف أيضًا بدولة إسرائيل؛ ومع ذلك فقد انتقدت الحكومة في مدريد مرارًا وتكرارًا انتهاكات إسرائيل المزعومة للقانون الدولي وبناء المستوطنات في الضفة الغربية.

أوروبا المنقسمة

وبالإضافة إلى هذه الدول الثلاث اعترفت بفلسطين كدولة دول أوروبية أخرى، منها مثلًا أيرلندا وبولندا والنرويج. وضمن إطار اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 أيلول/سبتمبر، أعلنت دول أخرى اعترافها بدولة فلسطينية، من بينها البرتغال وبلجيكا.

أما الدول الأوروبية الأخرى، وفي مقدمتها ألمانيا، فقد بدت أكثر تحفظًا في الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة. وموقف هذه الدول هذا أنَّ الاعتراف لا يمكن أن يكون بشكل أحادي الجانب، بل فقط بعد التوصل إلى حل تفاوضي.

جمهورية التشيك

ومن هذه الدول مثلًا جمهورية التشيك، التي تعد من أبرز الداعمين لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي. والتشيك لها علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية وثيقة مع إسرائيل. وبراغ تتحفظ على انتقاد إسرائيل في النقاشات الدولية. وجمهورية التشيك ومن قبلها تشيكوسلوفاكيا تحافظ على علاقات وثيقة مع إسرائيل منذ تأسيسها؛ في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، كانت براغ تزوّد دولة إسرائيل الناشئة بالأسلحة. ودعم إسرائيل يحظى في التشيك بإجماع بين جميع الأحزاب. وحتى الشعب التشيكي ينظر تقليديًا نظرة إيجابية إلى إسرائيل. وحتى الآن ترفض براغ دائمًا الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة.

المجر

والمجر أيضًا تؤيد إسرائيل بشكل واضح في جوانب كثيرة. وقد أكدت حكومة المجر بقيادة فيكتور أوربان مرارًا وتكرارًا على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وصرّح مثلًا وزير الخارجية المجري بيتر زيجارتو عدة مرات بأنَّ المجر تُدين هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي أسفر عن قتل 1200 شخص واحتجاز نحو 250 آخرين كرهائن، وتعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. والمجر تعرقل بانتظام إجراءات الاتحاد الأوروبي المشتركة التي تنتقد إسرائيل. ومثلًا لقد رفضت بودابست عدة مرات دعم بيانات الاتحاد الأوروبي الداعية إلى وقف إطلاق النار في غزة أو كذلك فرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين.

وردًا على إصدار مذكرة توقيف دولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فقد قررت المجر الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية. وبررت هذه الخطوة بأن المحكمة “منحازة سياسيًا”، خاصة فيما يتعلق بصراع الشرق الأوسط. وتزامنت هذه الخطوة مع قيام سياسيين إسرائيليين بارزين بزيارات رسمية إلى المجر ومع رفض المجر تنفيذ مذكرة اعتقال نتنياهو الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.

يظل الاتحاد الأوروبي منقسما، فـ11 دولة عضو، من بينها قوى رئيسية مثل ألمانيا وإيطاليا، لا تزال ترفض الاعتراف بدولة فلسطين، متمسكة بموقف يرى أن الاعتراف يجب أن يكون “نتيجة” مفاوضات سلام ناجحة، لا “وسيلة” لدفعها.

وفي هذا الصدد، يقول وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول: “يجب أن يأتي الاعتراف في نهاية العملية، لا في بدايتها”، مضيفا أن “الإرهاب والدمار لا يمكن أن يكونا أساسا لأي حل”.

من جهته، يرى نظيره الإيطالي أنطونيو تاجاني أن “الاعتراف بدولة دون وجود الظروف الفعلية لولادتها لن ينتج سوى وهمٍ”، وقد يبعد السلام أكثر.

ولا يقتصر الرفض على هاتين الدولتين، فكرواتيا، على سبيل المثال، تشهد خلافا داخليا بين رئيسها، الذي يدعو للاعتراف، وحكومتها، التي ترفضه. كما أن بلغاريا لم تصدر موقفا واضحا بعد، فيما ترفض جمهورية التشيك، رغم اعتراف تشيكوسلوفاكيا سابقا في الحقبة السوفيتية، الاعتراف اليوم، مشترطة “مفاوضات مباشرة” لا تراها ممكنة طالما تسيطر حماس على غزة.

ويشير خبراء إلى أن هذا الانقسام الأوروبي يضعف من قدرة التكتل على لعب دور فاعل في إنهاء الصراع. ويقول ماكس رودنبك من مجموعة الأزمات الدولية: “إذا لم يترجم الاعتراف إلى خطوات ملموسة على الأرض، فقد يصبح مجرد إلهاء عن الواقع المرير: وهو تآكل الوجود الفلسطيني في وطنه”.

وفي المقابل، تبقى الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو العقبة الأكبر، إذ ترفض جهارا فكرة الدولة الفلسطينية، بل وتهدد بضم الضفة الغربية، مما يجعل قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرا شبه مستحيل دون ضغط دولي حقيقي.

لذا، بينما يتسارع العالم نحو الاعتراف بفلسطين، تبقى أوروبا مشتتة، ودول كبرى كالتي في برلين وروما تتمسك بموقف قد ينظر إليه لاحقا كعائق أمام السلام، لا حارس له.

شاركها.