قال رياض بن عاشور، الأكاديمي والباحث التونسي البارز، إن القاعدة الديمقراطية تقدم ضمانات كثيرة، لكونها “تحرم وتجرم إيلام جسد الغير عن طريق التعذيب أو الحرمان من الطعام أو غيرها من المعاملات اللاإنسانية أو المهينة”، كما “تعمل أيضا على تعزيز النشاط الفكري للإنسان من خلال الاعتراف له بحرية الضمير والفكر والمعتقد وحرية نشر فكره ومعتقداته”.

وأضاف بن عاشور، خلال درس تنصيبه عضوا مشاركا في أكاديمية المملكة المغربية إلى جانب 4 أعضاء آخرين، اليوم الجمعة، أن “الناموس الديمقراطي يقوم على احترام حرية الفيلسوف والفنان والشاعر والكاتب والعالم، ويقيم للمجتمع والأفراد الحرية السياسية وحق المعارضة وحق المشاركة في الشؤون السياسية عن طريق التمثيل والمساهمة”، موردا أن “هذا ما يشار إليه بحقوق المواطن أو المواطنة”.

وذكر الأكاديمي التونسي، بعد تقديمه من طرف عضو أكاديمية المملكة المستشار الملكي عمر عزيمان، أن “الناموس الديمقراطي يستكمل آثاره الوضعية في حقوق الإنسان التي تضمن وتحمي السلامة الجسدية وكرامة الإنسان وحرية الضمير والفكر والدين والحق في التمثيل وحق الاقتراع، إلى غير ذلك، وحق شغل المناصب القيادية عن طريق الانتخاب أو غيره من الطرق والتقنيات السياسية”.

كما أبرز المتحدث، أثناء تقديم درسه الموسوم بـ”من أجل تأسيس كوني للإنسيّة (Humanisme) ردّا على تحديات العصر الحالي”، أن “هذه الحقوق والضمانات لا تعترف بها المذاهب الشمولية، مثل الفاشية أو الشيوعية أو الشعبوية أو الفلسفات السياسية اللاهوتية التي رغم افتراضاتها الإنسانية تؤدي في نهاية الأمر إلى إقامة نظام قمعي مناهض لإنسانية الإنسان”.

وشدد الباحث التونسي على أن “جملة من المبادئ، وعلى رأسها مبدأ عدم المعاناة، قادرة على أن تشكل أساسا مقبولا كونيا للإنسية الديمقراطية التي تميز الإنسان والإنسانية، ولا يحتكرها أحد، لا الغرب ولا الشرق ولا الشمال ولا الجنوب، ولا الإسلام ولا المسيحية ولا اليهودية ولا البوذية ولا الهندوسية، بل هي تراثنا الإنساني المشترك”.

وأشار بن عاشور إلى أن “التيار الإنسي والنظرية الديمقراطية المنحدرة عنه يتعرضان لتحديات وانتقادات كثيرة، منها النظرية ومنها الواقعية”، موضحًا أن “النظرية التي تدعي تأسيس الإنسية على الكونية تواجه حجتين نظريتين رئيسيتين: الأولى أن الكونية لا يمكن إثباتها إلا من خلال براهين تافهة أو غير مقنعة لأنها لا توجد في الواقع، لا نعرفها، لا نشاهدها، لا نلمسها، لأن كل وجود، ولاسيما وجود الجماعات البشرية، يتسم بالعديد من علامات الهوية الخاصة بكل مجتمع”، وأضاف أن “الانتقاد الثاني أن نظرية الكونية ليست سوى ادعاء محض، لأنها تخفي ممارسة سلطة وهيمنة على الغير، وبالتالي ستكون الكونية قناعًا لنوايا وأعمال غير معلنة، كما يؤكد ماركس أو فيورباخ”، وزاد: “على المستوى التاريخي قيل في الإنسية إنها دعوة غربية لا تتماشى مع المحيطات الثقافية الأخرى، وإنه تم تبرير المشاريع الاستعبادية والاستعمارية والعنصرية بشتى أنواعها وعلى وجه العالم باسم الكونية”.

ولفت العضو المشارك في أعلى هيئة فكرية وطنية إلى أن “الفكرة العامة التي تحرك معظم ردود الفعل ضد الكونية وتفرعاتها، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، هي أن تلكم النظريات ذات أصل غربي لا يمكن فرضها على المجتمعات الناشئة، بل يجب تكييفها مع الخصائص الثقافية أو الدينية للمجتمعات الأخرى”

وأما اليوم، يوضّح المتحدث، فإننا “أصبحنا نواجه ممارسات الهيمنة والاستعمار والاستعباد والإبادة، كمثل التي تمارس على الشعب الفلسطيني” في قطاع غزّة، وتابع: “نشاهد انتهاكات كثيرة ضد الديمقراطية والحريات العامة بوسائل التحيّل وتوجيه الرأي العام والدعايات الزائفة، كمثل التي تمارس في المنوال الشعبوي”، ومضى قائلا: “نجد أنفسنا في النهاية أمام معضلة: إذا اعتمدنا وجهة نظر الكونية الخاصة بمدرسة الحقوق الطبيعية فإننا نكون وقعنا في المثالية وفي نوع من الجوهرانية، أما إذا اعتمدنا وجهة نظر الخصوصية التي تدعي إمكانية تأسيس نظام تشريع على الخصائص الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية للمجموعة فإننا نكون قد انغلقنا في النسبية، ناهيك عن العدمية، وابتعدنا عن الكونية”.

ودعا بن عاشور إلى “الكف عن اعتبار الكونية بالانطلاق من نشاط العقل المفكر، وأن ننطلق من وجود الجسد الحي، وذلك لأن أول شيء يلوح لنظر الإنسان عندما ينظر إلى نفسه هو جسده، كما أفاد بليس باسكال”، مشيرًا إلى أن “الجسد يشكل الواقع الملموس الأول، وبصفته تلك فهو الدليل الوحيد على كونية الكائنات الحية”.

هذه الملاحظة تجرّ، وفق الباحث، إلى “التخلي عن طريقة مدرسة الحقوق الطبيعية وعن جميع العقلانية، بما في ذلك الكوجيتو الديكارتي، لنفضّل منظورا شبه بيولوجي، على الأقل في مرحلة انطلاق التفكر في مسألة التأسيس”، وبرّر ذلك بأن “النشاط العقلي الذي يتضمن الإبداع والإرادة والتفكير والإيمان والحب يُنتج حقائق العقل ويثير، من بين ما يثير، الثقافة وأنماط الحياة والعادات والتقاليد، وبالتالي فهو ينتج خصوصيات وأنماطا حضارية وثقافية معلومة، سواء كانت جمالية أو أخلاقية أو دينية أو فلسفية أو إيديولوجية أو مهنية أو تقنية”.

إلى ذلك يطالب الأكاديمي التونسي بأن “ينصب اهتمامنا أولا على أنشطة الضرورية لحياة الجسد الحي، وما ينبغي لبقائه والحفاظ عليه، مع العلم أن وجود الجسد وسلامته ينعكسان بالضرورة على حياة العقل ونشاطه، فالعقل المفكر بدون جسد حي أمر مستحيل لا يمكن تصوره، أما الجسد الحي بدون نشاط فكري فهو ممكن، ونهاية الجسد تعني نهاية العقل المفكر”.

وبالتالي أفاد بن عاشور بأن “التسلسل الأول من التحليل يتمثل في الانطلاق من الأنشطة الخاصة بالجسد، أي بعبارة صريحة: التنفس، الأكل، الشرب، المشي، اللمس، التناسل، البصر، الشم، التذوق، والمآرب الحياتية الأخرى، وهي كثيرة”، مضيفا: “وعلى هذا المستوى يمكننا أن نشاهد طبيعة كونية واحدة مشتركة بين جميع المخلوقات الحية”.

كما اعتبر المتحدث أنه “في هذا الإطار لا تعني الطبيعة إطلاقا طبيعة مدرسة الحقوق الطبيعية التي تظل افتراضية وغير قابلة للإثبات، بل في الطبيعة الفيزيولوجية والبيولوجية للكائن الحي، بما فيه البشري”، موردا أن “ما يمكننا ملاحظته تجريبيا هو أن حرمان هذه الحاجيات الحياتية يؤدي حتما إلى قدر متفاوت من المعاناة والألم والعذاب، قد يكون أليما وقد يكون قاتلا”، وزاد موضحا أنه “من خلال التجربة نلاحظ أيضا أن الجسد يفر، بدون استثناء، من هذا التهديد أو الخطر الذي قد يشمل حياته أو بقاءه”.

وتابع الباحث: “بالتالي فإن رفض الإيلام والتعذيب هو مبدأ كوني وشعور مشترك بين جميع الكائنات الحية، لنطلق عليه عنوان مبدأ عدم المعاناة أو مبدأ اللامعاناة”، ومن ثمّ فإن “التسلسل الثاني الذي يدور حصريا حول الكائن البشري، الكائن الإنساني، يتضمن تحليله في شموليته، لا كجسد فحسب، أي كجسد مادي وأيضا اعتباري مفكر، وكذلك اجتماعي”، مبرزا أن “الجسد المادي مشترك بيننا وبين جميع الكائنات الحيوانية، نحس كما تحس ونتألم من العذاب كما تتألم، رغم الفوارق على مستوى الشعور بالألم”.

وجرى تنصيب بن عاشور في جلسة رسمية استقبلت أيضا المؤرخ والأكاديمي المغربي البارز عبد الأحد السبتي، والكاتب الشهير الطاهر بن جلون، بالإضافة إلى الأكاديميين الفرنسيين هنري لورنس وجيروم كليمون، وذلك بحضور أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة وعدد من الأعضاء المقيمين بأعلى هيئة فكرية مغربية.

تجدر الإشارة إلى أنه بعد تعيين الملك محمد السادس الأعضاء المقيمين والشرفيين والمراسلين لأكاديمية المملكة المغربية، سنة 2023، تستمر جلسات التنصيب التي يعرّف فيها بالأعضاء الجدد، ويمنحون خلالها شارة الأكاديمية، ويلقون درس تنصيب في تخصّصهم بوصفهم أعضاء في أكاديمية المملكة المغربية.

المصدر: هسبريس

شاركها.