هل يمكن للسينما أن تكون مرآة لروح العصر، وتعكس التوترات الخفية بين الأفراد والمجتمع؟ وهل يمكن لفيلم أن يكون أكثر من مجرد سردٍ بصري، وأن يكون رحلة فلسفية إلى أعماق النفس البشرية؟ يواصل المخرج الأمريكي جيم جارموش في فيلمه الأخير “أب، أم، أخت، أخ” (Father Mother Sister Brother) استكشافه للعلاقات الإنسانية، مقدما عملا سينمائيا يتسم بالهدوء، والذكاء، والحزن، حيث يتناول الروابط الأسرية من خلال ثلاث قصص متوازية، كل واحدة تنبض بالحياة والشعور في إطار سينما البطء التأملية. هذا الفيلم حاز على جائزة الأسد الذهبي بمهرجان البندقية شتنبر 2025.

ثلاثية سردية في قالب واحد

يتألف فيلم “أب، أم، أخت، أخ” (2025/المدة 110 دقيقة) من ثلاث قصص مستقلة تتداخل فيما بينها، حيث تقدم كل قصة لمحة عن العلاقات الأسرية المعقدة. وتبدأ القصة الأولى على ضفاف بحيرة متجمدة، حيث يستقبل “الأب” (توم ويتس) زيارة من “الأخ” (آدم درايفر)، في لقاء يثير تساؤلات حول الزمن والماضي. وفي القصة الثانية، ننتقل إلى ضواحي دبلن، حيث تجتمع “الأم” (شارلوت رامبلينغ) مع ابنتيها “تيموثيا” (كيت بلانشيت) و”ليليث” (فيكي كريبس)، في محادثات تبدو عابرة لكنها تكشف عن عمق العلاقات والتوترات الكامنة. أما القصة الثالثة، فتأخذنا إلى باريس حيث تتشابك مصائر شخصيات مختلفة في سياق اجتماعي وثقافي غني.

يتميز جارموش في هذا الفيلم بتقديمه لأسلوب سينمائي هادئ ومؤثر، حيث يعتمد على الإضاءة الطبيعية والديكورات البسيطة لخلق جو من الواقعية السحرية. ويبتعد عن الموسيقى التصويرية التقليدية، مما يتيح للمشاهدين الانغماس في الحوار والأداء التمثيلي. ويعكس هذا الاختيار فلسفة جارموش في تقديم السينما كوسيلة للتأمل والتفكير، بعيدا عن المؤثرات البصرية والصوتية المبالغ فيها.

تفكيك الأنساق الاجتماعية

من خلال هذا العمل، يتناول جارموش قضايا مثل التواصل داخل الأسرة، التوقعات المجتمعية، والبحث عن الهوية. ويظهر الفيلم كيف أن الصمت والتفاصيل الصغيرة يمكن أن يكونا أكثر تعبيرا من الكلمات الكبيرة. كما يناقش التحديات التي تواجه الأفراد في محاولة فهم أنفسهم ومحيطهم، وكيف أن العلاقات الأسرية قد تكون مصدرا للراحة أو الألم، حسب السياق والتجربة.

ويقدم الفيلم مزيجا من الرموز الثقافية والفلسفية، حيث تتداخل الأماكن والأزمنة لتخلق نسيجا معقدا يعكس تنوع التجارب الإنسانية. ومن خلال استخدامه للمواقع المختلفة، يعكس جارموش التباين بين الثقافات والطبقات الاجتماعية، مما يضيف عمقا للأحداث والشخصيات.

وتعتمد بنية الفيلم على تقسيمه إلى ثلاث قصص مترابطة، مما يتيح للمشاهدين فهم العلاقات الأسرية من زوايا متعددة. ويتم تقديم كل قصة بأسلوب سردي هادئ، حيث تركز الكاميرا على التفاصيل الدقيقة والتفاعلات البسيطة بين الشخصيات. ويعكس هذا الأسلوب اهتمام جارموش بالإنسان وتجاربه اليومية، بعيدا عن الدراما المبالغ فيها.

ويقدم “أب، أم، أخت، أخ” تجربة سينمائية فريدة، حيث يجمع بين الجمال البصري والعمق الفكري. من خلال هذا الفيلم، يدعو جارموش المشاهدين للتفكير في العلاقات الأسرية، التوقعات المجتمعية، والهوية الشخصية، مقدما عملا سينمائيا يتسم بالهدوء، الذكاء، والحزن، ويعكس رؤية فنية متميزة في عالم السينما المستقلة.

منطق التواطؤ العاطفي

في فيلمه الأخير “أب، أم، أخت، أخ”، يواصل جيم جارموش رحلة استكشاف الذات الإنسانية من خلال عدسة سينمائية تتسم بالهدوء والتأمل. يفتح الفيلم الباب أمام أسئلة عميقة عن الهوية، الزمن، والعلاقات الإنسانية، متجاوزا الخطاب التقليدي ليغوص في تفاصيل يومية تحمل شحنة رمزية كثيفة. وفي لحظة افتتاحية، يظهر البطل واقفا أمام نافذة تطل على مدينة نيوجيرزي، ويتساءل: “أحيانا أرى وجهي في الزجاج، وأتساءل من هذا الذي ينظر إليّ؟” وتعكس هذه الرؤية الفلسفية تمثلات الذات التي تتشكل ليس من الأحداث الكبرى، بقدر ما تتأسس من التكرار والعزلة والانصهار في تفاصيل الحياة اليومية، مما يجعل من الفيلم دراسة للوعي والوجود الإنساني.

يرتكز الفيلم على سرد متعدد الأبعاد، يتوزع بين نيوجيرزي، دبلن، وباريس، ويعيد تعريف الأسرة على نحو يتجاوز النماذج التقليدية. وتكتسب الشخصيات هويتها من خلال علاقاتها المعقدة التي تخضع لمنطق التواطؤ العاطفي لا الصراع المباشر، فيقال على لسان الأخت: “أشعر بأنني أعيش في ذاكرة شخص آخر”، لتكشف هذه العبارة عن التداخل بين الذاتي والجمعي، وعن الصراع النفسي الذي يحكم الشخصيات ويجعلها تتأرجح بين الحرية والانتماء. تتجاوز العلاقات مفهوم الارتباط التقليدي، ليصبح الآخر مرآة تعكس هشاشة الذات وتوقها إلى التفاهم والقبول.

يستند البطل إلى رؤية متماسكة تحكم تصرفاته تجاه العالم، حيث يظهر موقفه من التكنولوجيا كرمز للمقاومة الهادئة، فيرفض الهاتف المحمول رغم إلحاح زوجته، ويقول: “العالم كان بخير قبل أن نُحاصر بالإشعارات”، ليعكس هذا رفض الانغماس في التشويش الرقمي، ويجعل من التفاصيل اليومية فعلا سياسيا وفلسفيا في آن واحد، يجسد مقاومة الفرد أمام الإكراهات الحديثة.

معايشة الجمال والإحساس بالفن

يقدم الفيلم في الأبعاد الاجتماعية لوحة دقيقة للتفاوت الطبقي والضغوط الاقتصادية. وفي الحانة التي يرتادها البطل، يشتكي زميله: “أعمل منذ عشرين سنة، وما زلت أعدّ القروش آخر الشهر”، ليعكس هذا الواقع المادي الصعب دون الانحدار إلى خطاب مباشر، بينما يُظهر البطل قناعاته الداخلية في قوله: “امرأة تحبني، وعمل لا يرهقني، وشلال أجلس أمامه كل مساء”، ليصبح التوازن الداخلي خيارا جماليا يعكس القدرة على مقاومة الزحف الاستهلاكي دون استسلام.

ويستثمر جارموش في البعد السياسي من خلال الفن، حيث يعتبر أن السياسة لا تأتي من الخطاب المباشر دائما، وإنما من القدرة على إثارة التعاطف؛ إذ يقول خلال مهرجان البندقية: “ليس لزاما على الفن أن يتطرق للسياسة بشكل مباشر ليكون سياسيا، بقدر ما يمكنه إثارة التعاطف، وهي الخطوة الأولى نحو حل مشاكلنا”. وتتجلى هذه الرؤية في الفيلم الذي يصبح فعلا سياسيا بامتياز من خلال قدرة البطل على خلق مساحة للإنسانية والفهم بين الأشخاص المختلفين، متجاوزا الانتماءات الحزبية التقليدية.

ويتكرر في البعد الرمزي مشهد الشلال الذي يجلس أمامه البطل، ويقول: “الماء لا يسأل إلى أين يذهب، هو ينساب فحسب”، ليصبح الشلال رمزا للزمن، والتدفق، والشعرية التي تحكم الفيلم، ويرمز إلى الفهم العميق للحياة بعيدا عن الهدفية المطلقة. وفي مشهد آخر، يكتب البطل عن أعواد الثقاب: “عود ثقاب واحد يمكنه إشعال حب، أو حريق”، لتتجسد فلسفة التوازن بين الجمال والخطر، وتتحول الأشياء اليومية البسيطة إلى مادة للتأمل والتفكر في الوجود الإنساني.

تتميز البنية البصرية للفيلم بالتكرار الإيقاعي، حيث يركز جارموش على اللحظات الصغيرة والتفاصيل الدقيقة، ويعتمد على الصور الصامتة لتكثيف المعنى، فسينما جارموش كمن يقبض على العالم من خلال قصيدة شعرية تبني شعريتها وجمالياتها على عنصر التكرار، لا داخل القصيدة وإنما عبر المتواليات الازدواجية البصرية. ويعكس هذا التكرار فلسفة الزمن، حيث تتكرر الأيام بالإيقاع نفسه لكنها تحمل اختلافات دقيقة، مما يجعل كل لحظة تجربة سينمائية متجددة.

ويعيش البطل في البعد النفسي حالة من العزلة الاختيارية، ويعبر عن ارتياحه في قوله: “أحب أن أكون في مكاني، لا أريد أن أكون في مكان آخر”، ليصبح اكتفاء الذات هو معيار النجاح الشخصي، ويمثل القدرة على معايشة الجمال والإحساس بالفن بعيدا عن الشهرة أو الترقية.

السينما فضاء للتأمل والتفكر في معنى الحياة

تطرح وجهات النظر المختلفة داخل الفيلم أسئلة عن السعادة والرضا، حيث تبدو معظم الشخصيات مضطربة، بينما يحافظ البطل على توازنه الداخلي. يقول البارمان العجوز: “الناس لا تعرف ماذا تريد، لكنها تعرف ما لا تريده”، ليكشف هذا عن أزمة وجودية تحكم الشخصيات، ويعكس قدرة الفيلم على تحويل كل لقاء وسلوك إلى مساحة للتأمل الفلسفي والنقد الاجتماعي.

وتواجه الفيلم انتقادات تتعلق بغياب الحبكة التقليدية؛ إذ يرى بعض النقاد أن التركيز على التفاصيل يقوض دينامية السرد، ويراهن جارموش على التفاصيل، لكنه ينسى أن السينما تحتاج إلى حدث، بينما يرد الفيلم ضمنيا من خلال البطل: “القصيدة لا تحتاج إلى حبكة، تحتاج إلى لحظة صدق”، لتتحول اللحظة السينمائية إلى قصيدة حية، حيث تتفاعل المشاعر والتفاصيل مع المشاهد بشكل مباشر.

وتغنى الأحداث بالعلاقات العابرة للمدن والثقافات، حيث يلتقي البطل بشاعر ياباني، ويقول له: “أنت شاعر، حتى لو لم تنشر قصائدك”، لتجسد هذه العبارة فلسفة جارموش في الفن، حيث يُقاس الإبداع بقدرته على خلق لحظة جمال وتأمل، لا بالشهرة أو الاعتراف العالمي.

ويستفيد الفيلم من المؤثرات البصرية والصوتية لتعميق تجربة المشاهد، حيث تستخدم الإضاءة الطبيعية، والموسيقى الهادئة، والصمت، لإضفاء عمق على كل شخصية ومشهد، ويجعل كل حركة وكل نظرة وسيلة للتعبير عن العواطف الداخلية، فيصبح العالم السينمائي فضاء شعريا يمزج الواقعية بالرمزية.

ويعكس البطل من خلال حساسياته موقفا فلسفيا تجاه الحياة، حيث يواجه القضايا الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية بصمت ووعي، ويجعل من التفاصيل اليومية، الحوار، والمكان أدوات لفهم الإنسان، دون الانخراط في خطابات مباشرة.

ويظهر الفيلم العلاقة بين الذات والآخر، حيث تتشكل الشخصيات من خلال الفهم المتبادل والقبول، وتتحول الأسرة إلى فضاء للتجربة الإنسانية، بدلا من كونها إطارا للتقليد الاجتماعي أو الهيمنة.

ومن خلال هذا البناء، يغدو فيلم “أب، أم، أخت، أخ” دراسة متكاملة للوجود الإنساني، حيث تتلاقى الفلسفة، الفن، والنقد الاجتماعي في قالب سينمائي شاعري، يعيد تعريف معنى الأسرة، والذات، والآخر، ويقدم نموذجا للبطل الذي يعيش تفاصيل حياته اليومية كفعل مقاوم وجمالي، ويجعل من السينما فضاء للتأمل والتفكر في معنى الحياة والإنسانية.

تختتم رحلة “أب، أم، أخت، أخ” بفهم أعمق للذات وللآخر، حيث يتجلى البطل كرمز للهدوء والمقاومة الداخلية، وللتأمل في تفاصيل الحياة اليومية التي تحاكي جمالها في صمت. يعكس الفيلم قدرة الإنسان على التعايش مع الزمن والهشاشة، وعلى إيجاد المعنى في اللحظات الصغيرة. تترك المشاهد مع سؤال دائم عن الانتماء والحب والصدق. كما تقول شخصية الأخت في أحد المشاهد: “ربما الحياة قصيرة، لكن كل لحظة نقضيها بصدق تجعلها خالدة”، ليصبح هذا القول خلاصة فلسفة جارموش، رسالة عن قيمة الصدق واللحظة في مواجهة تعقيدات الوجود البشري.

المصدر: هسبريس

شاركها.