ما الذي يجمع بين الزوايا الصوفية والسياسة وما الذي يفرق بينهما؟ أين يجتمعان وأين يتفرقان؟ أو لنقل بصريح العبارة ما الذي أتى بالجذبة والحضرة إلى فن الممكن وتدبير الشأن العام للدولة وللشعب عموما؟ هل يمكن أن نجمع بين “النقيضين” أقصد الدين والدولة، أو بلغة الفقهاء بين القرآن والسلطان؟ أليس غريبا أن نرى شخصيات عمومية وفاعلين سياسيين وأكاديميين يتحولون إلى مريدي الزاوية، ويحضرون حلق الذكر، بل ويتمسحون بتلابيب الشيخ؟ أكُلّ هذا زهد في الدنيا أم هو جزء من اللعبة السياسية؟ ما الذي يجذب أعضاء بارزين في حكومة بلادنا إلى الإنتماء إلى الزوايا والمشاركة الفاعلة في أنشطتها وبرامجها الموسمية؟ ما الذي يجعلهم ينتقلون من حلبة المعارك السياسية إلى حلقة الذكر ويملؤون رحاب الزاوية بهمهمات التهليل والتسبيح؟ أيركنون إلى سكينة الخلوات الليلية طمعا في “الفتح الرباني والفيض الرحماني”؟ كيف يتحولون بجرة قلم إلى مريدين يبتغون عند شيوخهم الرضى والبركة؟ ألسنا علمانيين كما صرح بذلك معالي وزير الأوقاف أم إن العلمانية نفسها أسلمت بين يدي الشيخ؟ ألسنا حداثيين مثقفين ومتنورين ولا علاقة لنا بـ”الظلامية” التي جعلناها عنوانا للتخلف؟ واقتفينا أثر “أساتذتنا” الحداثيين في الغرب نطبق نظرياتهم بوفاء كبير في أدق تفاصيل حياتنا حتى ننال منهم التأييد، الرضى والإشادة؟ كيف للزاوية أن تغشى السياسة؟ كيف لها أن تحرك دواليب الحكم في زمن السرعة والرقمنة وعالم المواقع الاجتماعية الرائدة في التأثير الدولي؟ ومن أين لها بهذه القوة الضاربة وهذه الهالة والهيبة التي تفعل فعلها في السياسة؟

ومهما يكون، فتدبير الشأن الديني في دولة أمير المؤمنين مسألة لها مكانتها الشرعية، التاريخية والإجتماعية. لكن اهتمامنا هنا سينصب حول استكشاف خفايا تحول بعض الزوايا إلى مؤسسات دينية يُرصد امتدادها الشعبي وتأثيرها الروحاني العميق لتصبح رقما سياسيا صعبا في منظومة الحكم، وربما على مدار التاريخ الإسلامي فهذا ما يدعو إلى معرفة أسرار قوتها وبلوغها إلى مرمى صناعة القرار في منظومة الحكم، بل وصناعة الدول نفسها واستكشاف التجاذبات البرغماتية الحاسمة خلال هذا الصراع في عرف السياسة.

بداية لا يمكن أن ننظر للزوايا الصوفية بعين الشك والريبة، ليس لأنها مكون أساسي وهام في المنظومة الاجتماعية وفي مخيال المجتمع العربي والإسلامي، بل أيضا لأنها مرتبطة بتاريخ التفاعل الديني والسياسي في صناعة نظام الحكم في الدولة. فمعظم حكام العرب مسلمون ويعتقدون أو يزعمون أنهم ينتمون للسلالة الشريفة لأبناء سيدنا علي كرم الله وجهه من زوجه فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليه السلام. وجلهم يعلمون علم اليقين أن حكم المسلمين لا يشد عضده إلا أن يكون للحاكم مرتبة دينية يحكم من خلالها، وبالتالي يصبح الحاكم المسلم في كل الأزمنة هو الحاكم السياسي الفعلي وهو في الوقت نفسه الأمير، أو الخليفة وبالتالي لا يجوز تجاوزه سياسيا وحتى إذا ما طرأ موجب لذلك لبس عمامة الحاكم الديني ليضرب على يد السياسي.

فمند سنة 30هـ والإنكسار التاريخي الأول للأمة حينما سقطت الخلافة واعتلى بنو أمية عرش الملك العاض وبقي الأمر على ما هو عليه حتى يوم الملك الجبري هذا، والحاكم المسلم ينعم بسلطتين أساسيتين، آليتين للحكم وازنتين ومتكاملتين، آلية الدين وآلية السياسة، يُكيفهما كما يشاء وفقا لما تقتضيه براغماتية السياق السياسي والتاريخي. وهذا فعلا ما وقع مع الملك الراحل الحسن الثاني في خلافه مع المعارضة اليسارية نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي حين أكد بالقول “إن كان الملك لا يستطيع فإن أمير المؤمنين يستطيع.”

وللعلم فإن جميع الأسر التي حكمت المغرب كان منطلق دعوتها التأسيسية انتماؤها لآل البيت واللجوء إلى الزوايا الصوفية لصناعة البيئة الحاضنة للدعوة السياسية. لأن الزوايا لم تكن مجرد أماكن للانقطاع عن الحياة والزهد والصلوات، بل مؤسسات تربوية دينية قائمة بذاتها فهي حضرة العلماء والدعاة، يؤطرها القرآن والسنة النبوية وتمتد يدها لتبلغ مواطن الإرشاد والتوجيه السياسي من خلال إبداء النصح لأولي الأمر والضرب على أيدي المفسدين منهم إن تطلب الأمر ذلك أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر. ففي أواخر القرن الثامن الميلادي كانت بداية أول دول إسلامية لآل البيت النبوي في المغرب مع إدريس بن عبد الله 788792)م( الذي عرف باسم إدريس الأول. عند دخوله المغرب خائفا يترقب أمراء الأمويين، استقبلته قبائل أوربة الأمازيغية ف´ ´حمت˚ه وبايعته حينما بلغ إلى علمها أنه من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي هذا الولاء لآل البيت طابعا خاصا لنظام الحكم بالمغرب حتى يومنا هذا.

أما في بداية القرن الحادي عشر وحتى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي انطلقت دعوة الشيخ عبد الله بن ياسين الجزولي من رباطه في جنوب المغرب، حيث عاش فقيها زاهدا ومجاهدا، وُصف بأنه أحد زعماء الإصلاح الديني في أوائل القرن الخامس الهجري، كان شيخا مربيا ومؤسسا للدولة المرابطية حينما وحد كلمة القبائل الامازيغية الصنهاجية وجمعهم على كلمة سواء وانطلقت دعوته من رباط الزاوية، لتضم عددا من القبائل ومناطق شاسعة من أرض المغرب الإسلامي، فامتدت من الجنوب في موريتانيا والسودان حتى شماله في الاندلس وشرقه في كل أراضي منطقة الجزائر حاليا. أما في بداية القرن الثاني عشر، فإن الشيخ المهدي بن تومرت جعل منطلق دعوته بمشروع إصلاحي نواته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيما وأنه بعد وفاة يوسف بن تاشفين تفرق أمر المسلمين ودخلت الدولة في صراعات سياسية عقيمة، مما عجل بسطوع نجم محمد بن عبد الله بن وجليد بن يامصال المشهور بالمهدي بن تومرت. ذاك الشاب الذي نهل من العلوم الشرعية في الشرق وفي الاندلس ورجع إلى قبيلة ت´ ˚نمُل بمنطقة سوس بالمغرب لتجتمع عليه كلمة المسلمين حينما ادعى أنه من السلالة الشريفة.

في معظم تاريخ المغرب وحتى يومنا هذا، قلما نجد غيابا لدور الزوايا الصوفية كمؤسسات لها اليد العليا في التأطير الديني للجهاد، والتربوي التعليمي لأصول الدين، وطبعا التأطير السياسي وفي امتلاكها قوة كبيرة للحشد لتأييد هذا الحاكم أو الوقوف ضده للأسباب السالفة بالذكر. وهذا الأمر مرده إلى أربع نقط غاية في الأهمية:

  1. الأولى وهو أن مرجعية نظام الحكم والنّف´س العام لبناء الدولة كان دينيا بالأساس، وكل القبائل الامازيغية التي انبثقت منها أسر حاكمة كان الجانب الديني هو المؤسس والمؤطر لحركتها التجديدية. فقبائل أوربة، وصنهاجة، ولمتونة، ومصمودة، وزناتة وغيرها كان منطلقها الزاوية، ليس فقط كمحاضن للتربية الصوفية ومجاهدة النفس بل أيضا كمقرات للإستقطاب السياسي وبناء نخب قادرة على الحكم بما أنزل الله تربية، تنظيما، وزحفا.
  2. والثانية وهو أن غالبية الأقطاب الصوفية التي أطرت حتى الزوايا في المشرق العربي كانت على يد أقطاب صوفية من المغرب وعلى رأسهم، عبد السلام بن مشيش، وأبي يعزا في المغرب الأقصى، أبي مدين الغوث في منطقة الجزائر، وحتى الطريقة الجيلانية لسيدي عبد القادر الجيلاني، والشاذلية التي يعرفها العالم اليوم نسبة إلى أبو الحسن الشاذلي، خرجت هي أيضا من زاوية سيدي عبد السلام بن مشيش. وهنا تكمن القوة الناعمة لهذه المؤسسات الدينية وبالتالي لا عجب في أن نرصد انتماء عدد من العلماء كأبي حامد الغزالي إلى طرق صوفية معينة والتماسها التربية عند الشيخ الصوفي بعد مسارها في الإجتهاد والعلم الشرعي.
  3. والثالثة هو أن الحكام والسلاطين بالمغرب كانوا ينخرطون هم أيضا في بناء هذه الزوايا، ويبدلون لها العطاء السخي، نظرا لما لها من الدور القوي في الاستقرار وبناء الدولة، ولما لها أيضا من دعم للشرعية السياسية للحكام.
  4. والرابعة وهو فعل التأثير القوي لحركات الإجتهاد الديني للعلماء بالأندلس التي بلغت أوجه مع المرابطين والموحدين ما بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر الميلادي، سيما وأنه مند حكم المرابطين وحتى بداية حكم المرينيين كان ارتباط المغرب بالأندلس كبيرا، وانتقلت المعرفة بزخم كبير إلى المغرب من الاتجاهات الأربع من شماله في الاندلس أو من جنوبه من شنقيط والسنغال والسودان ومن شرقه من المغرب الأوسط )الجزائر( والأدنى )تونس(، فجعلت الزوايا الصوفية من المغرب قبلة للمعرفة والتربية والتأطير الديني والسياسي .

خاتمـــــــــــــة.

إذا كان للزوايا الصوفية الأثر الكبير في تأطير المجتمع المغربي دينيا وتربويا وسلوكيا مند الادارسة وحتى يومنا هذا، ولها من السطوة السياسية والرمزية ما من شأنه أن يرفع نخبا سياسية ويُسقط أخرى ويضفي الشرعية على أنظمة الحكم أو يسحبها منها، فإن الأسر الحاكمة للمغرب انخرطت في صناعة هذه المحاضن التربوية والدينية على مقاسها واحتوتها كي تتولى تأطيرها هي بشكل عمودي، وبالتالي سحبت منها أدوارها التاريخية وسحبت منها وظيفة العالمية (بكسر اللام) التي كانت تتمتع بها. فأصبحنا اليوم نرى الزاوية منزوعة الصلاحية وعملها التربوي الصوفي موسمي مرتبط بإحياء ليالي الحضرة والذكر في ذكرى المولد النبوي الشريف لا غير، عمل هجين مجانب للسنة النبوية وللمذاهب التي أقرها إجماع علماء الأمة، بل ومجانبا لهوية الامة ولتطلعاتها، مما أسقطها في مخالفات شرعية واضحة، وتحولها إلى دكاكين سياسية لا نفع فيها، يغشاها السياسيون لأنهم يتوكؤون عليها ويهشون بها على العلماء العاملين، ولهم فيها مآرب أخرى. وهذا ما نستشفه ليس فحسب في صراعات المشيخة الدائمة بين المريدين أنفسهم وأبناء الشيوخ، وإنما أيضا في تدخل البراغماتية السياسية في صلب هذا الشأن لتحقيق التوازن السياسي.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.