تقف كردفان اليوم كمساحة فاصلة في الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين، ليس فقط لموقعها الجغرافي الممتد ومواردها الغنية، بل أيضاً لما تحتضنه من طرق إمداد حيوية وتحالفات معقدة، حيث يدرك كل طرف من المتحاربين أن السيطرة على الإقليم تعني امتلاك مفتاح لمعادلة القوة في البلاد. غير أن التاريخ والجغرافيا أثبتا أن كردفان لم تكن يوماً أرضاً سهلة الابتلاع.

التغيير فتح الرحمن حمودة

مع دخول حرب الجنرالين عامها الثالث، انزلق الإقليم إلى أتون مواجهة شرسة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتحولت مدن وقرى إلى مسرح مفتوح لعمليات عسكرية متكررة جعلت حياة المدنيين أكثر هشاشة، حيث بات النزوح الجماعي، وفقدان الأمن الغذائي، وانقطاع الخدمات، جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية.

وقال سليمان أبو حميدة لـ«التغيير» إن قلة الاستهداف المباشر للمدنيين ساهمت في الحد من الخسائر البشرية، إلا أن معاناة السكان لا تزال كبيرة نتيجة العراقيل التي تواجه وصول المساعدات الإنسانية. وأوضح أن الطرق محفوفة بالمخاطر بفعل العمليات العسكرية، ما يجعل إيصال الغذاء والدواء مسألة شديدة التعقيد. وأضاف أن جغرافيا الإقليم تزيد من تعقيد المشهد، فالشمال سهل مفتوح يشهد مواجهات مباشرة وشرسة، بينما الجنوب تحميه الجبال والأشجار، ما يبطئ حركة القوات ويزيد من معاناة المدنيين.

ومن جانبه، أكد مهدي موسى لـ«التغيير» أن العمليات العسكرية أثرت بشكل مباشر على حياة المواطنين، فقد نزح معظم السكان إلى مناطق أكثر أماناً، بينما تراجعت الروابط الاجتماعية مع فقدان الأقارب والأحبة بشكل شبه يومي، وعلى الصعيد الاقتصادي انهارت أبسط مقومات الحياة. ويرى موسى أن الحرب اتخذت منعطفات متباينة، فهناك من يعتبرها حرباً وجودية ودفاعاً عن النفس، وآخرون يعدونها مواجهة ضد غزو إرهابي، لكن النتيجة واحدة: المدنيون هم الخاسر الأكبر.

«موقع استراتيجي وتضاريس معقدة»

تقع كردفان في قلب السودان، وتربط بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، ما يجعلها نقطة عبور استراتيجية للأطراف المتقاتلة. وتتوزع على ثلاث ولايات رئيسية تتمثل في شمال كردفان، جنوب كردفان، وغرب كردفان. وتتميز تضاريسها المتنوعة من سهول واسعة إلى جبال مرتفعة، ما يفرض على كل طرف تكتيكات مختلفة في السيطرة والتحرك العسكري.

ويرى خبراء عسكريون أن جغرافيا المنطقة تجعلها عقدة صعبة في مسار الحرب. وقال اللواء أمين إسماعيل مجذوب لـ«التغيير» إن الإقليم يمثل خطوط إعاقة استراتيجية، فالجيش يحاول التقدم عبره نحو دارفور، بينما تسعى قوات الدعم السريع إلى تعطيل هذا التقدم. وأكد أن السيطرة على كردفان لن تكون نهاية الحرب، لكنها شرط للانتقال إلى معارك أكثر تعقيداً في دارفور.

أما الصحفي والمحلل السياسي إيهاب مادبو، فشبه معارك كردفان بـ«كسر العظم» التي تحدد النفوذ السياسي والعسكري للطرفين. وأوضح لـ«التغيير» أن طبيعة الإقليم تفرض معارك مفتوحة وغير تقليدية، وأن أي طرف لا يفهم تضاريس المنطقة سيجد نفسه في مواجهة معقدة قد تغير موازين القوة بشكل مباشر.

«الموارد الطبيعية ودوافع الصراع»

تعتبر كردفان من أغنى مناطق السودان بالموارد الطبيعية، حيث تضم حقول نفطية ومناجم ذهبية، إضافة إلى ثروة حيوانية وزراعية واسعة، ما يجعل السيطرة على الإقليم بمثابة ورقة ضغط مالية واستراتيجية في أي صراع أو مفاوضات سياسية. فالأسواق المحلية والزراعة تعكس قدرة الإقليم على دعم المجتمعات المحلية وحتى تمويل العمليات العسكرية.

وقال الصحفي والخبير الاقتصادي أحمد بن عمر في حديثه لـ«التغيير» إن الحرب أثرت بشكل مباشر على الأسواق وحركة التجارة في كردفان. تعطلت الطرق المحورية ما رفع كلفة النقل وأعاق دخول السلع والخدمات الإنسانية. وأكد أن الوصول الإنساني صار أكثر تعقيداً منذ منتصف 2025، وهو ما أدى إلى خفض المعروض ووسع الاعتماد على القنوات غير الرسمية والأسواق الرمادية.

وفيما يخص الموارد الطبيعية، أشار إلى أن الثروة الحيوانية ما زالت تلبي الطلب الخارجي رغم الحرب، إذ بلغت قيمة صادرات الماشية إلى السعودية نحو 715 مليون دولار في 2023. لكن تعثر المسارات الداخلية زاد من زمن العبور وكلفة المخاطر وضغط على أسعار المنتجين.

أما الزراعة، فقد تراجع إنتاجها بشكل كبير، حيث أظهر مسح ميداني شمل 492 مزارعاً في جنوب كردفان أن 89% منهم أبلغوا عن انخفاض في الإنتاج، و56% عن عجز في العمالة الموسمية. كما تراجعت المساحة المزروعة وطنياً من 23 إلى 10 ملايين هكتار خلال موسم واحد، ما يعكس انكماشاً حاداً يشمل ولايات الإنتاج ومنها كردفان.

وعن التعدين الأهلي، أوضح بن عمر أن الوضع أصبح أكثر فوضوية مع توسع الجبايات غير الرسمية وتهريب الخام عبر طرق تمر بكردفان ودارفور. وبين أن إنتاج الذهب الوطني بلغ نحو 80 طناً في 2024 بقيمة تتجاوز 6 مليارات دولار، لكن أكثر من نصفه تم تهريبه. هذا جعل مواقع التعدين ومسارات العبور أهدافاً رئيسية للصراع. وأضاف أن النفط يمثل عاملاً آخر للتوتر، حيث تمتلك حقولاً مثل هجليج وزناً تفاوضياً ولوجستياً يضعها في قلب المواجهات.

وأكد بن عمر أن الموارد الأساسية الذهب، النفط، الماشية تشكل دوافع رئيسية في الصراع. الذهب مثلاً يوفر مصدر تمويل مباشر مع ارتفاع أسعاره القياسي في 20242025، والنفط يمثل ثقلاً تفاوضياً، فيما تمنح الماشية نفوذاً اجتماعياً واقتصادياً خصوصاً مع استمرار الطلب الخارجي من السعودية ومصر.

ويرى بن عمر أن الاقتصاد المحلي يمكن أن يلعب دوراً مهماً في أي تسوية سياسية، بشرط تحويل الحوافز الاقتصادية لصالح الاستقرار من خلال عدة إجراءات قال إنها ليست رفاهية، بل شرط للاستقرار في ظل وجود 2426 مليون شخص يواجهون جوعاً حاداً في 2025، وأكثر من 12 مليون نازح داخل وخارج السودان.

«الوضع الإنساني وتأثيرات الصراع»

تركت الحرب في كردفان آثاراً كبيرة على المدنيين من نزوح جماعي، انقطاع خدمات أساسية، وأزمة غذاء ودواء، فضلاً عن أنها جعلت المنظمات الإنسانية تواجه صعوبات في الوصول إلى المناطق الأكثر تضرراً، ما يجعل الوضع الإنساني أحد أهم أبعاد الصراع الذي غالباً ما يُغفل عنه صانعو القرار.

وأصبحت المنطقة ساحة معركة عسكرية معقدة، ومركزاً اقتصادياً تتنازع عليه القوى، وأرضاً مثقلة بالنازحين والجوعى، حيث يسعى المتحاربون فيها لتوظيفها كمفتاح للقوة أو كخط دفاع. فهل تتحول إلى مقبرة لطموحاتهم أم إلى نقطة تحول تفرض مساراً جديداً للحرب ومستقبل السودان؟

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.