الرباعية.. ما خطوتها القادمة في السودان؟
أحمد عثمان جبريل
❝الحرب لا تُخاض مرتين، لكنها تقتل مرتين: مرة بالسلاح، ومرة بالصمت.❞
ألبير كامو
يتفق الفلاسفة على منطق بسيط ومؤلم: أن كل حرب تحتاج إلى صمتٍ ما لتعيش صمت الضمير، صمت المجتمع الدولي، أو صمت الخوف.
لكن يبدو أن الصمت الذي أحاط بالحرب السودانية بدأ أخيرًا يتشقق.
نعم، هناك أصوات داخلية، سودانية، بدأت ترتفع، أولاً على استحياء، ثم بثقة متزايدة، تقول: زمن الحرب انتهى، وأن اللحظة الراهنة تستدعي وقفة صادقة، تليها خطوات عملية نحو السلام.
هذه الأصوات التي قبل أشهر فقط كانت تُقال همسًا باتت اليوم أكثر حضورًا. لم تعد تطالب بوقف الحرب فحسب، بل تُصرّ على أن السلام بات ممكنًا وضروريًا وواجبًا وطنيًا.
في هذه اللحظة الحرجة، تقف الرباعية (السعودية، الإمارات، مصر، والولايات المتحدة) أمام استحقاق أخلاقي واستراتيجي في آن واحد.
مصادر متابعة لمداولات الرباعية تشير إلى أن المجموعة دخلت بالفعل مرحلة جديدة من التفكير العملي، تتجاوز التصريحات المكرورة، نحو خطوات مزمّنة وواضحة، تبدأ بفرض هدنة إنسانية شاملة تمتد لثلاثة أشهر، يُفترض أن تلتزم بها كافة الأطراف.
هذه الهدنة، كما جرى ترويجها داخل الأروقة المغلقة، ليست مشروطة بالنوايا، بل مُحاطة بآلية رقابة دولية دقيقة، وممرات إنسانية آمنة وشفافة، تتيح إيصال المساعدات لملايين العالقين تحت الأنقاض، وفي خنادق الجوع.
لكن ما هو أبعد من الإغاثة، وأكثر عمقًا، هو الجانب السياسي.
الرباعية تتحضّر لرعاية مؤتمر تمهيدي سوداني شامل يعيد تجميع الفُسيفساء المبعثرة: مدنيين، عسكريين، نازحين، وممثلي الهوامش.. لصياغة رؤية جديدة للانتقال السياسي، تختلف عن كل ما سبق، وتولد من رحم المعاناة لا من تفاهمات العواصم.
ومع كل هذا، يبقى السؤال الأصعب:
ماذا لو تعثّر هذا المسار؟
من المنطقي أن تُوضَع كل الاحتمالات على الطاولة.
الرباعية تدفع بثقلها نحو تسوية سلمية، لكن إذا استمرت الأطراف في التعنت، فإن أدوات الضغط قد تتصاعد لتشمل مسارات أكثر حسماً.
وهنا، يبرز من منظور التحليل السياسي والقانوني احتمال اللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كأداة قانونية دولية مطروحة لا لفرض هيمنة، بل لحماية حياة المدنيين وفرض السلام بالقانون حين تفشل الدبلوماسية.
الفصل السابع لا يبدأ بالدبابات، كما يظن البعض، بل يبدأ بتوصيف قانوني: إعلان أن الحرب في السودان تُهدد السلم والأمن الدوليين. بعدها يمكن فرض عقوبات ذكية وموجهة على الأطراف المعطِّلة، ثم إذا لزم الأمر تفويض بعثة أممية لحماية المدنيين، وفرض وقف إطلاق النار، وفتح الممرات الإنسانية بقوة القانون، لا الرجاء.
وقد شهدنا تطبيق هذا المسار سابقًا في دول مثل سيراليون وليبيريا، حينما وصلت الحروب إلى نقطة اللاعودة، ولم تعد أدوات السياسة التقليدية كافية لوقف الانهيار.
صحيح أن مثل هذه السيناريوهات تطرح حساسيات مشروعة تتعلق بالسيادة، لكن حين تغدو الحرب نفسها نفيًا للسيادة الوطنية، يصبح التدخل الإنساني بشروطه القانونية خيارًا أخلاقيًا أكثر منه سياسيًا.
وما يلفت الانتباه، أن هذا التصلّب في موقف الرباعية، ودفعها الجميع نحو السلام، لا يأتي في فراغ. بل يتزامن مع صعود خطاب داخلي جديد، يتشكّل خارج أسوار العواصم، في الأحياء المدمرة، والمخيمات المؤقتة، وعلى ألسنة المُهجرين والناجين.
خطاب لم يعُد يكتفي بـ”لا للحرب”، بل يقول بوضوح:
“آن أوان وقفها.”
خطاب يُكتب بالدم، ويُنطق بالإنهاك، لكنه يحمل نُضجًا جديدًا في الوعي الجمعي السوداني.
ذلك النهم القديم لمعادلة “الكل أو لا شيء” بدأ يتراجع، أمام قناعة تنمو بأن “بعض السلام خير من استمرار الفناء”.
وإذا كانت الرباعية تبحث عن نافذة للعبور من مرحلة الانسداد إلى الحل، فقد فتحت لها هذه الأصوات الصاعدة فجوة يمكن أن تتحوّل إلى باب، ثم إلى طريق.
في كل ما قيل ويُقال، تبقى الحرب، كما وصفها كامو، موتًا مزدوجًا.
وما تحاول الرباعية فعله الآن، مدفوعة بتبدّل داخلي متنامٍ، هو إيقاف الموت الثاني: الصمت.
إنا لله، ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير