المؤسسات المالية أمام العدالة: قراءة في قضية البنك الفرنسي BNP Paribas وفتح باب العدالة للضحايا السودانيين
بقلم: عمر سيد أحمد خبير مصرفي ومالي وتمويل مستقل
[email protected]
سبتمبر 2025
مقدمة
في سبتمبر 2025 بدأت في المحكمة الفيدرالية للمنطقة الجنوبية من نيويورك (مانهاتن) محاكمة مدنية غير مسبوقة ضد بنك BNP Paribas الفرنسي، رفعها نحو 20 ألف لاجئ سوداني اتهموا البنك بلعب دور محوري في تمكين نظام عمر البشير (19972008) من الوصول إلى الأسواق المالية الدولية، واستخدام عائدات النفط في شراء الأسلحة وتمويل حملات عسكرية أدت إلى جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في دارفور وجنوب السودان. هذه القضية لم تأتِ من فراغ؛ ففي يونيو 2014 كان البنك قد اعترف رسميًا أمام وزارة العدل الأمريكية بخرق العقوبات على السودان وإيران وكوبا، ودفع غرامة قياسية بلغت 8.97 مليار دولار ذهبت إلى الخزانة الأمريكية دون أن يستفيد منها الضحايا (U.S. DOJ 2014). لاحقًا، وفي مايو 2019، أعادت محكمة الاستئناف الفيدرالية في نيويورك (قضية Kashef v. BNP Paribas) فتح الطريق أمام ضحايا سودانيين لمقاضاة البنك (Kashef v. BNP Paribas 2019)، ثم سمح قاضٍ فيدرالي في أبريل 2024 باستمرار بعض المطالبات، وصولًا إلى هذه المحاكمة التاريخية (Kashef v. BNP Paribas 2024).
إنها ليست مجرد نزاع قانوني بين ضحايا سودانيين وبنك أوروبي، بل لحظة مفصلية تعيد تعريف دور المؤسسات المالية في النزاعات المسلحة، وتفتح الباب أمام مساءلة البنوك عن تمويل الجرائم الدولية، وفرصة متأخرة لتحقيق العدالة للضحايا السودانيين.
خلفية عن BNP Paribas والاعترافات السابقة
BNP Paribas يُعد من أضخم البنوك الأوروبية والعالمية، بحضور يتجاوز 70 دولة وأصول بمئات المليارات من الدولارات (AfDB 2025). خلال فترة العقوبات الأمريكية على السودان منذ 1997، كان النظام السوداني معزولًا ماليًا، لكن البنك لعب دورًا محوريًا في كسر هذا العزل. في يونيو 2014، اعترف البنك رسميًا أمام وزارة العدل الأمريكية بخرق العقوبات المفروضة على السودان وإيران وكوبا (U.S. DOJ 2014). التحقيقات أثبتت أن البنك قام بتمرير معاملات مالية بمليارات الدولارات عبر النظام المالي الأمريكي، رغم علمه بأن هذه الأموال مرتبطة بحكومات خاضعة لعقوبات دولية. نتيجة لذلك، فرضت السلطات الأمريكية غرامة قياسية بلغت 8.97 مليار دولار، وهي من أكبر الغرامات في تاريخ البنوك العالمية، لكن هذه الغرامة ذهبت إلى الخزانة الأمريكية، ولم يستفد منها الضحايا الذين تضرروا من الجرائم الممولة بتلك الأموال (U.S. DOJ 2014). هذه الثغرة تبرز أهمية الدعوى المدنية الجديدة التي رفعها اللاجئون السودانيون، إذ تسعى إلى تعويضهم مباشرة، لا الاكتفاء بالعقوبات المالية الحكومية.
الدعوى المدنية لعام 2025 وأبعادها القانونية
تمثل الدعوى الحالية ضد بنك BNP Paribas في محكمة مانهاتن محطة قانونية فارقة، لأنها لا تقتصر على خرق العقوبات أو إخفاء معاملات مالية، بل تسعى إلى تحميل البنك نفسه مسؤولية مباشرة عن الجرائم الدولية التي ارتكبها نظام البشير. القانون الدولي التقليدي ركّز على المسؤولية الفردية. فـ نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية (1998) نصّ على مسؤولية الأفراد، من قادة سياسيين وعسكريين، عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. لكنه لم يتطرق صراحة لمسؤولية الشركات ككيانات اعتبارية. مع ذلك، توسع الفقه القانوني خلال العقدين الماضيين ليشمل المؤسسات الاقتصادية ضمن دائرة المساءلة، خصوصًا إذا لعبت دورًا جوهريًا في تسهيل ارتكاب الجرائم (OHCHR 2020). ومن هنا جاء الاعتماد على آليات وطنية مثل القانون الأمريكي المعروف بـ Alien Tort Statute (ATS) الصادر عام 1789، الذي يمنح المحاكم الأمريكية صلاحية النظر في قضايا تتعلق بانتهاكات القانون الدولي حتى لو وقعت خارج الولايات المتحدة، بشرط وجود صلة قوية بالأراضي الأمريكية.
في هذا السياق برزت قضية Kiobel v. Royal Dutch Petroleum Co.، التي رفعها ناشطون نيجيريون ضد شركة شل متهمين إياها بالتواطؤ مع الحكومة النيجيرية في قمع الاحتجاجات المحلية. وفي عام 2013 قضت المحكمة العليا الأمريكية بتقييد نطاق تطبيق قانون ATS على القضايا التي ترتبط بشكل كافٍ بالولايات المتحدة، لكنها في الوقت ذاته لم تُغلق الباب تمامًا أمام مساءلة الشركات، بل أكدت على إمكانية النظر في مثل هذه القضايا إذا توفرت صلة واضحة بالأراضي الأمريكية (Kiobel v. Royal Dutch Petroleum Co. 2013). وفي السياق نفسه، شهدت المحاكم الأمريكية قضية أخرى عُرفت باسم Kashef v. BNP Paribas S.A.، حيث رفع ضحايا سودانيون دعوى مدنية ضد البنك لتورطه في تمويل نظام البشير، وهي قضية مثّلت خطوة إضافية في توسيع دائرة مساءلة المؤسسات المالية عن الجرائم الدولية (Kashef v. BNP Paribas 2019).
ورغم التعقيدات القانونية، قبلت محكمة الاستئناف في الدائرة الثانية (2019) النظر في القضية، معتبرة أن هناك أساسًا معقولًا لتحميل البنك مسؤولية (Kashef v. BNP Paribas 2019). هذه السابقة عززت موقف المدعين في الدعوى الجديدة لعام 2025. حيث رفع ضحايا سودانيون دعوى مدنية تتعلق بتورط البنك في تمويل نظام البشير. ورغم التعقيدات القانونية، قبلت محكمة الاستئناف في الدائرة الثانية (2019) النظر في القضية، معتبرة أن هناك أساسًا معقولًا لتحميل البنك مسؤولية (Kashef v. BNP Paribas 2019). هذه السابقة عززت موقف المدعين في الدعوى الجديدة لعام 2025. الدعوى الحالية لا تقتصر على ماضي البنك فقط، بل تستند إلى منطق قانوني أوسع: أن المؤسسات المالية التي توفر قنوات لأنظمة تمارس الإبادة الجماعية تصبح شريكًا مباشرًا في الجريمة.
الأبعاد السياسية والاقتصادية للقضية
تكشف قضية BNP Paribas عن ثغرات كبيرة في نظام العقوبات الاقتصادية الدولي. فالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة منذ 1997 على السودان هدفت إلى عزل النظام عن النظام المالي العالمي، لكنها لم تمنعه من الحصول على الموارد اللازمة لمواصلة الحرب. السبب أن هذه العقوبات كانت فعّالة فقط بقدر التزام البنوك الدولية بتطبيقها. أي تهاون من بنك بحجم BNP Paribas (بي ان باريباس) يعني فتح نافذة ضخمة للنظام السوداني لتجاوز الحصار (Global Witness 2020). النظام المالي العالمي يعتمد على شبكة معقدة من البنوك المراسلة، التي تُستخدم لتمرير الأموال عبر الحدود. هذه الشبكات غالبًا ما تخفي المستفيدين الحقيقيين من المعاملات. في حالة السودان، استغل نظام البشير هذه الثغرات لتمرير عائدات النفط وتحويلها إلى صفقات أسلحة وعمليات تمويل عسكري. من الناحية السياسية، تمثل المحاكمة تحوّلًا مهمًا في السياسة الأمريكية. في السابق، اكتفت واشنطن بفرض عقوبات مالية ضخمة على المؤسسات المخالفة، مثل الغرامة التاريخية التي دفعتها (بي ان باريباس) عام 2014، لكن اليوم، يتوسع المنظور ليشمل تحميل المؤسسات المالية نفسها مسؤولية قانونية أمام المحاكم المدنية، وهو ما يضاعف من قوة الردع. أي حكم ضد (بي ان باريباس) سيكون بمثابة زلزال في النظام المصرفي الدولي. فالبنوك الكبرى الأخرى (مثل دويتشه بنك) أو (كريدي سويس) سبق أن تورطت في قضايا تتعلق بغسل الأموال أو بتمويل أنظمة قمعية، لكنها لم تُحاسب بالقدر الكافي. الحكم ضد (بي ان باريباس) سيشكل سابقة تدفع هذه البنوك إلى إعادة النظر في سياساتها، وتشديد إجراءات العناية الواجبة والامتثال للقوانين الدولية. أما بالنسبة للسودان، تكشف القضية عن حجم الأضرار التي تسببها التدفقات المالية غير المشروعة. فالأموال التي مرت عبر (بي ان باريباس) لم تُستخدم لبناء المدارس أو المستشفيات، بل لشراء السلاح وتمويل حملات عسكرية ضد المدنيين. النتيجة كانت اقتصادًا منهارًا وملايين النازحين (AfDB 2025).
انعكاسات القضية على السودان الحالي (20232025)
القضية ليست مجرد درس من الماضي، بل لها صلة مباشرة بالحاضر. فكما كان النفط المورد الأساسي لتمويل نظام البشير، أصبح الذهب اليوم المورد الرئيسي لتمويل الحرب السودانية الجارية. تشير تقارير أممية إلى أن ما بين 7080% من الذهب السوداني يُهرّب إلى الخارج، خصوصًا عبر الإمارات ومصر، ما يحرم الدولة من مليارات الدولارات سنويًا (UN Panel of Experts 2023). هذه الأموال تُستخدم في تمويل المليشيات وشراء السلاح بدلًا من دعم التنمية. إلى جانب الذهب، تلعب شبكات الصرافة غير الرسمية ونظام الحوالة دورًا محوريًا في تمويل أطراف الحرب. هذه القنوات توفر سرعة وسرية، بعيدًا عن أعين الرقابة الرسمية، ما يجعلها أداة مثالية لتمويل النزاعات (Amnesty International 2016). مع اندلاع الحرب الحالية، انقسم بنك السودان المركزي بين مناطق خاضعة لسيطرة الجيش وأخرى لسيطرة قوات الدعم السريع. هذا الانقسام حطم ما تبقى من البنية المصرفية الرسمية. البنوك المحلية أُغلقت أو فقدت ثقة العملاء، بينما ازدهرت قنوات الاقتصاد الموازي. إدانة أو صدور حكم ضده ستمنح المجتمع الدولي أداة قانونية جديدة لمواجهة هذه الظواهر. فإذا أُثبت أن البنوك يمكن أن تُحاسب على تمويل الجرائم، فإن ذلك سيُستخدم للضغط على شركات الصرافة والبنوك الإقليمية التي تتعامل مع الذهب السوداني أو مع قنوات الحوالة.
فرص العدالة والتعويض للضحايا
على مدى عقدين من النزاعات في السودان من دارفور إلى جنوب السودان لم يحصل الضحايا على أي تعويض فعلي. صحيح أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت أوامر اعتقال بحق بعض قادة النظام، وعلى رأسهم عمر البشير، لكن تركيزها ظل منصبًا على المسؤولية الجنائية الفردية، دون توفير أي إنصاف مادي مباشر للضحايا والناجين. محاكمة BNP Paribas في مانهاتن تُمثل تحولًا مهمًا لأنها لا تسعى إلى فرض غرامة حكومية فقط، بل تهدف إلى تعويض مباشر للضحايا عبر النظام القضائي الأمريكي. هذه النقلة من العقوبات المالية إلى التعويض المدني تحمل قيمة قانونية كبرى؛ ففي 2014 ذهبت الغرامة إلى الخزانة الأمريكية ولم تنفع الضحايا (U.S. DOJ 2014). القضية الحالية يمكن أن تُفهم أيضًا في إطار العدالة الانتقالية، حيث تُستخدم آليات قضائية ومالية لتعويض الضحايا (OHCHR 2020). في جنوب أفريقيا مثلًا، أنشئت لجان الحقيقة والمصالحة التي لم تقتصر على كشف الانتهاكات، بل فتحت المجال لتعويض المتضررين. وفي رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، جرى إنشاء صناديق تعويضات ساعدت الناجين في إعادة بناء حياتهم. نجاح هذه القضية سيُشجع ضحايا سودانيين آخرين، سواء في دارفور أو في مناطق الحرب الحالية، على رفع دعاوى مشابهة ضد بنوك أخرى أو مؤسسات مالية يُشتبه في تعاملها مع أطراف النزاع. وقد يمتد الأمر إلى الضغط من أجل إنشاء صناديق دولية للتعويضات بتمويل من الغرامات المفروضة على البنوك المتورطة (Global Witness 2020).
الخاتمة والدروس المستفادة
توضح محاكمة BNP Paribas أن المال لم يعد عنصرًا محايدًا في النزاعات المسلحة. حينما يسمح بنك عالمي بمرور مليارات الدولارات لأنظمة ترتكب إبادة جماعية، فإنه لا يبقى مجرد وسيط مالي، بل يتحول إلى شريك في الجريمة. هذه السابقة تؤسس لفكرة أن رأس المال قد يكون أداة بناء أو وقود إبادة، حسب كيفية توجيهه. القضية ليست مجرد نزاع بين لاجئين سودانيين وبنك فرنسي، بل رسالة عالمية بأن المؤسسات المالية يمكن أن تُحاسب على أفعالها، تمامًا كما يُحاسب الأفراد أو الحكومات. وهذا تطور كبير في مسار العدالة الدولية، يوسع نطاقها ليشمل الشركات متعددة الجنسيات. بالنسبة للسودان، فإن هذه السابقة تمنح المجتمع الدولي ورقة ضغط جديدة لإجبار المؤسسات المالية على وقف التعامل مع الأطراف التي تموّل الحرب الحالية (20232025). كما أنها تفتح الباب أمام بناء نظام مالي أكثر شفافية يخدم إعادة الإعمار بدلًا من تمويل النزاعات. ال lesson الأساسي هو أن مساءلة المؤسسات المالية ليست مجرد مطلب قانوني، بل ضرورة سياسية وأخلاقية لمنع تكرار الجرائم. لا يمكن تحقيق السلام المستدام في السودان أو غيره دون ضبط حركة الأموال العابرة للحدود، وإلا ظلّت موارد مثل النفط أو الذهب تتحول إلى وقود للحروب. إن نجاح الدعوى ضد BNP Paribas سيشكل نقطة تحول في التاريخ القانوني الدولي. سيجعل البنوك العالمية أكثر حذرًا، ويمنح الضحايا السودانيين بعض الأمل في تعويض متأخر لكنه مستحق. الأهم من ذلك، أنه يعيد تعريف دور المؤسسات المالية: فإما أن تكون شريكًا في بناء الأوطان، أو شريكًا في إبادتها (UN Panel of Experts 2023; AfDB 2025).
References / المراجع
- U.S. Department of Justice. BNP Paribas Agrees to Plead Guilty and to Pay $8.9 Billion for Violating U.S. Sanctions. Press Release, June 30, 2014.
- Kashef v. BNP Paribas S.A., 925 F.3d 53 (2d Cir. 2019).
- Kashef v. BNP Paribas S.A., 616 F. Supp. 3d 20 (S.D.N.Y. 2024).
- Kiobel v. Royal Dutch Petroleum Co., 569 U.S. 108 (2013).
- Global Witness. Financing War: Banks and the Cost of Conflict. London, 2020.
- Amnesty International. Banks, Arms and Human Rights Violations. London, 2016.
- United Nations Panel of Experts on Sudan. Report on Gold and Armed Conflict in Darfur and Beyond. UN Doc. S/2023/451. New York: United Nations, 2023.
- African Development Bank. Sudan Economic Outlook 2025. Abidjan: AfDB, 2025.
- Office of the High Commissioner for Human Rights (OHCHR). Remedy in Development Finance: Guidance and Practice. Geneva: United Nations, 2020.
المصدر: صحيفة التغيير