أمد/ ##مقدمة:

منذ فجر التاريخ، شكّلت العصبية ـ بمعناها الواسع ـ الأساس الذي قامت عليه المجتمعات. ففي الجزيرة العربية قبل الإسلام، كانت العصبية القبلية الضامن الأول للحماية والبقاء، فهي التي توحّد الأخوة وأبناء العمومة لمواجهة الغريب. هذه الروح، وإن حملت سلبيات، كتغليب القرابة على الحق، إلا أنها منحت القبيلة تماسكًا جعلها قادرة على الصمود في بيئة قاسية.

مع مجيء الإسلام، هُذِّبت العصبية وأُعيد توجيهها من الولاء الأعمى للقبيلة إلى الولاء للحق والعدل، مع الحفاظ على قيم النخوة والشجاعة والوفاء. وهكذا أصبح الولاء ليس للقبيلة فقط، بل للوحدة الجامعة للأمة، مما يضمن استمرار المجتمع القوي والمنسجم.

##الغرب وبروز العصبية القومية:

حين ضعفت سلطة الإقطاع في أوروبا أواخر العصور الوسطى، تحولت العصبية من روابط دموية ضيقة إلى رابطة قومية أوسع.

فرنسا وألمانيا وإيطاليا، استندت إلى اللغة والتاريخ المشترك كأساس لبناء الدولة القومية. الثورة الفرنسية أعطت مفهوم “الأمة” بعدًا سياسيًا، فتحوّل الولاء من الأمير إلى الوطن.

لاحقًا، في الحربين العالميتين، تجلّت العصبية القومية بأقصى صورها، لكنها تحولت بعد ذلك إلى توحيد أوروبا عبر الاتحاد الأوروبي، أي تحويل العداء التاريخي إلى مصلحة مشتركة.

الولايات المتحدة، من جانب آخر، جمعت مهاجرين من أعراق شتى تحت هوية وطنية جامعة، فشكّلت العصبية الوطنية قوة صلبة في مواجهة المخاطر، رغم تنوع المكونات الداخلية.

##الشرق الأدنى والأقصى وصياغة العصبية المستحدثة:

في الشرق أيضًا، لم تختفِ العصبية، بل أُعيد إنتاجها بطرق استراتيجية، سواء في دول الشرق الأدنى أو الأقصى:

الصين (الشرق الأقصى): الأمة الصينية الكبرى تجاوزت اختلافات الأقليات لصالح مشروع قومي يدعمه الحزب الحاكم.

روسيا (الشرق الأدنى/الأوروبيالآسيوي): استمرت العصبية الإمبراطورية السلافية والأرثوذكسية، وأضافت بعدًا قوميًا لمواجهة الغرب.

الهند (الشرق الأدنى): رغم تنوعها العرقي والديني، توحدت تحت هوية قومية قوية (الهندوتفا).

كوريا الشمالية (الشرق الأقصى): حوّلت العصبية القومية إلى أيديولوجيا مغلقة تعتمد على الذات (جوتشي).

هنا يظهر بوضوح كيف تحولت العصبية من رابطة دم إلى رابطة دولة قومية، تضبط المجتمع وتوجهه نحو مشروع سياسي واقتصادي واضح.

##العرب: من العصبية الجامعة إلى التشرذم:

يمتلك العرب مقومات طبيعية للوحدة لم تمتلكها شعوب أخرى: لغة موحدة، ثقافة واحدة، دين جامع (الإسلام في الغالبية)، وتاريخ مشترك يمتد قرونًا.

لكنهم لم ينجحوا في تحويل هذه المقومات إلى عصبية قومية جامعة. بعد انهيار الخلافة وتقسيم حدود سايكسبيكو، وتأسيس الدولة القُطرية، انقسمت العصبية العربية إلى:

نزاعات قبلية.

انقسامات طائفية.

صراعات حزبية وسياسية.

بدل أن تكون العصبية جسرًا للتوحيد كما في أوروبا والصين، تحولت إلى أداة للتناحر الداخلي، فأصبح الأخ على أخيه، وابن العم على ابن عمه، بينما الغريب يستفيد من هذا التمزق.

##الخاتمة:

العصبية ليست خيرًا مطلقًا ولا شرًا مطلقًا، بل أداة اجتماعية:

إذا وُجّهت نحو مشروع جامع، تتحول إلى قوة قومية تبني حضارات ودول.

إذا وُجّهت نحو الداخل، تتحول إلى معول هدم يفتت المجتمعات.

الغرب والشرق أعادوا صياغة العصبية لتخدم الدولة القومية والمصلحة المشتركة، أما العرب فقد بقوا أسرى تفككهم الداخلي، رغم أن مقومات الوحدة لديهم أقوى بكثير.

يبقى السؤال: هل يمكن للعرب أن يستعيدوا عصبيتهم الجامعة، لكن هذه المرة في صورة دولة حديثة عادلة، تجمع ولا تفرق، توحد ولا تشتت؟

شاركها.