تصاعد جرائم الإبادة والتصفية

بلغت جرائم الاحتلال الإسرائيلي ذروة غير مسبوقة ضد شعبنا الفلسطيني، سواء من خلال تصاعد وتائر جرائم الإبادة الجماعية والتهجير الجماعي والتجويع، واستهداف كل عناصر الحياة الآدمية في قطاع غزة، حيث أعلنت وزارة الصحة في غزة أنّ حصيلة الشهداء تجاوزت 65,000 شهيد وأكثر من 139,000 جريح حتى أيلول/سبتمبر 2025 (تحديث OCHA – الأمم المتحدة)، أو من خلال توسع حكومة الاستيطان والضم الفاشية بصورة منهجية في تنفيذ مخططات الضم، عبر مزيد من مصادرة الأرض والمياه ومجمل مقومات الحياة، بما يستهدف تقويض قدرة الناس على البقاء في مختلف أرجاء الضفة الغربية، بما فيها القدس. ويجري ذلك كله على مرأى ومسمع العالم، ولا سيما صُنّاع القرار الدولي في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى، بما يؤكد تورط واشنطن المباشر في مخططات تصفية القضية الفلسطينية، دون أي رد فعل أوروبي ملموس ومؤثر لوقف مذبحة العصر البشرية والسياسية بحق شعب بأكمله.

هل من رهان على تغيُّر الموقف العربي؟

فشلت قمة الدوحة في اتخاذ خطوات عملية كفيلة بإعادة تصويب علاقة المصالح المتبادلة مع واشنطن، بما يضع حداً لهذه الجرائم وللمخططات التي باتت تتجاوز فلسطين وشعبها، وتكشف طبيعة الأطماع الصهيو–أمريكية تجاه ما يُسمى بـ”إسرائيل الكبرى”. فما تمخضت عنه القمة يعكس غياب أي مشروع عربي جاد، في وقت تعمل واشنطن وتل أبيب على إعادة رسم حدود بلدان المنطقة، ومحاولة إخضاعها للهيمنة الأمنية والسياسية لإسرائيل الكبرى، كما يكشف مدى التآكل الحاد في بنية ودور الحركة الوطنية الفلسطينية وعجزها عن بلورة موقف وطني جامع في ظل المتغيرات الجيوسياسية، ليشكل رافعة يبنى عليها موقفاً عربياً يتناسب مع طبيعة التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية، ومجمل المنطقة. ومع ذلك فإن مدى الأطماع الاسرائيلية في المنطقة قد تجعلها مفتوحة على مختلف الاحتمالات .

أزمة القيادة الفلسطينية وتراجع المشروع الوطني الديمقراطي 

السؤال الملح علينا كفلسطينيين بات متجاوزًا حالة النقاش المجرد إزاء الأولويات الماثلة أمام القيادة الفلسطينية؛ فقد أكد مسار حرب الإبادة والتصفية، على مدار عامين كاملين، مدى حرص هذه القيادة على النأي بالنفس إزاء تداعيات الإبادة في غزة أو تسارع الخطوات الإسرائيلية لحسم الصراع في الضفة وعليها. الأمر يفرض مغادرة أي وهم بإمكانية تغيير هذا الواقع دون تشمير نشطاء المجتمع عن سواعدهم والتقدم نحو مبادرات ملموسة تُسهم في تعزيز قدرة الناس على الصمود والبقاء، كونها الأولوية العليا لشعبنا، والتي لا تنفصل عن الأولوية المطلقة لوقف الإبادة، والنضال المثابر مع الناس لإبطال مفاعيلها المباشرة والاستراتيجية على حد سواء.

الموروث الكفاحي وتقاليد العونة 

في هذا السياق، يختزن الموروث الكفاحي للشعب الفلسطيني قيماً ملموسة من تقاليد العونة منذ ما قبل النكبة، وكذلك تجارب ناجحة لعبت دوراً حاسماً في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني على مدار عقود طويلة. فما أبدعته الانتفاضة الأولى من دروس في هذا المجال شكّل العنصر الحاسم في امتصاص والتغلب على أشكال العقوبات الجماعية التي استهدفت إخضاع الفلسطينيين وكسر إرادة المنتفضين من مختلف القطاعات الشعبية. ولطالما كانت كلمة السر في صمودها ابتكار أشكال خلّاقة من التكافل الأسري والتضامن الاجتماعي. صحيح أن أطراف الحركة الوطنية كانت المحرك لمثل هذه المبادرات، ولكن الحاجة الموضوعية هي التي حوّلت أطر هذه المبادرات إلى حركة جماهيرية وفعل شعبي تجاوز الأدوات التقليدية للقوى آنذاك، وتحول إلى شبكة فاعلة وسياج متقدم في مواجهة مخططات الاحتلال والعقوبات الجماعية.

تفكك النسيج الاجتماعي وأزمات الاقتصاد

من الواضح تماماً أن تدهور الأوضاع الاقتصادية وأثره الاجتماعي، بما في ذلك التراجع المستمر لقدرة مؤسسات السلطة الوطنية على مواجهة تداعياته، سواء بسبب ما تسعى إليه حكومة المستوطنين الفاشية، بما في ذلك استهداف السلطة ذاتها، أو لطبيعة بنية ودور هذه المؤسسات واغترابها أو عجزها عن تلبية الاحتياجات الشعبية، يفرض التفكير بأشكال، مهما كانت بسيطة، في محاولة لملء الفراغ المتنامي، الذي يسهم بشكل خطير في تفكيك النسيج الاجتماعي وتعزيز ثقافة الخلاص الفردي. هذه الثقافة كانت للأسف الإفراز الأخطر لمسار أوسلو، جراء تراجع المشروع الجمعي للحركة الوطنية وهيمنة المصالح الفئوية والفردية على ما كان يُعرف بالمشروع الوطني. وتشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (نيسان/أبريل 2025) إلى أن معدل البطالة في غزة بلغ نحو 68٪، فيما ارتفع في الضفة الغربية إلى 31٪، وهو ما يعمّق الأزمات الاجتماعية ويدفع مزيدًا من الأسر إلى الفقر.

إرهاب ميليشيات المستوطنين المسلحة

حكومة الإرهاب والفاشية تستدعي فعلياً كل الأدوات الذاتية لحسم الصراع. فبالإضافة إلى الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي والغطاء “القانوني” الذي تقدمه واشنطن، نجحت هذه الحكومة في إنشاء ميليشيات مسلحة من المستوطنين تمارس يومياً هجماتها الإرهابية، حيث يتواصل الاستيلاء على معظم ما تُسمى بالمناطق “ج”، ولا سيما في الأغوار، من خلال ما بات يسمى بالاستيطان الرعوي، وتصعيد الهجمات الإرهابية للمستوطنين، بما في ذلك على الطرق الرابطة بين المدن الفلسطينية، والتي باتت تخضع لنظام سيطرة وتحكم شامل يمزق وحدة وترابط مناطق الضفة الغربية. مثل هذه السياسة، التي تسعى إلى فرض وقائع جغرافية، ستولد أيضاً مضاعفات اقتصادية وأزمات اجتماعية تعزز البحث عن حلول فردية في سياق التهجير الصامت، قبل انتقال حكومة تل أبيب لمحاولة حسم المعركة بتنفيذ تهجير جماعي واسع النطاق.

مبادرات التكافل الاجتماعي كرافعة للبقاء

والسؤال هنا، ودون إعفاء المؤسسات الرسمية من واجباتها: هل بدأت البُنى المجتمعية، المتمثلة بمؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والحراكات القطاعية واللجان الشعبية في المخيمات، في رسم ولو ملامح أولية للانخراط في حملات واسعة النطاق للتكافل والتضامن الاجتماعي على كافة المستويات الممكنة وبالمصادر الذاتية المتاحة؟ ذلك في ظل أزمة البطالة الخانقة وارتفاع معدلات الفقر وعدم تقاضي موظفي القطاع العام رواتبهم الكاملة على مدار سنوات، آخذين في الاعتبار المسؤولية الاجتماعية لهؤلاء الموظفين ليس فقط تجاه أسرهم بل وعائلاتهم الممتدة.

التكافل واجب وحقٌّ قانوني

لقد آن الأوان أن تبادر كل القوى والمجموعات والمؤسسات والشخصيات والنشطاء، وفي مختلف المناطق، إلى ابتكار وسائل تتلاءم مع واقع وقدرة كل منطقة. جوهر هذه الوسائل ليس فقط استعادة قيم ودور التكافل الاجتماعي وصون النسيج الاجتماعي والوطني، بل وإعادة الاعتبار للقيم والعمل الجمعي الذي يشكل الرافعة الأهم في مواجهة مخطط تفكيك وتصفية، ليس فقط للقضية الوطنية، بل وأساساً لقدرة النسيج الاجتماعي على الصمود والبقاء. ولعل البدء بمثل هذه المبادرات وتوسيع نطاقها سيوفر شكلاً ونموذجاً قادرين على إحياء شبكات العمل الجماهيري والاجتماعي، ويشكلان ربطاً للمهام الوطنية والاجتماعية، بما يسهم على المدى غير البعيد في انتقال الحركة الشعبية وقواها الحية من حالة التبشير والتأثير إلى القدرة على التغيير، وربما إعادة بناء الحركة الوطنية وتوفير ما يمكنها من إفشال المخططات الصهيونية التي تستهدف الجميع دون استثناء.

فبقاء الناس على الأرض هو حجر الأساس في مواجهة هذه المخططات، والمعيار الجوهري للهزيمة والنصر في مجرى الصراع مع المشروع الصهيوني . وإنَّ التكافل والتضامن الاجتماعي ليسا فقط واجباً أخلاقياً أو إنسانياً، بل حقًّا من حقوق الدفاع المشروع عن الوجود. تفعيل شبكات الدعم والتكافل الاجتماعي، وتوثيق الانتهاكات، والمقاومة الشعبية، بل والانتقال المتدرج نحو العصيان المدني ضد الاحتلال، وتعزيز التعاون والعمل المشترك مع قوى السلام والديمقراطية والعدالة الإنسانية ولجان التضامن مع الشعب الفلسطيني، ذلك كله في سياق الأهداف السامية للحرية والانعتاق من الاحتلال،  هي مهمات واجبة و أدوات قانونية مشروعة لحماية الحقوق غير القابلة للتصرف، وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير، كما نصّت عليه قرارات الأمم المتحدة، وأبرزها القرار 194.

شاركها.