خالد فضل
على مدار سنين البلد المستقل لم تصمت البنادق في الحروب الأهلية إلا لفترة عقد واحد 72__1983م وهي فترة إتفاقية أديس أبابا بين الحكومة العسكرية السودانية بقيادة المشير الراحل جعفر النميري وحركة الأنانيا في جنوب السودان _سابقا_ بزعامة جوزيف لاقو .
لمدة 60سنة ظلّ جنود القوات المسلحة في حالة حروب مستمرة ضد بعض مواطنيهم الذين يوصفون من جانب الحكومات المتعاقبة بالمتمردين , الخوارج , العملاء , الخونة , قطاع الطرق , النهابة , المرتزقة , المليشيا الإرهابية …. إلخ . يكاد كل أطراف السودان من ثلاث الجهات قد شملتها هذه الصفات التي تطلقها الحكومات من مركز السلطة في الخرطوم وحاليا بورتسودان . من الجنوب قديما وحاليا إلى دارفور والنيل الأزرق وحتى قرورة وكسلا في الشرق , هناك إرشيف لفترة ستين عاما ينوء بهذه الأدبيات , عدا فترة قصيرة (2019_2021م ) خلال فترة حكومة الانتقال التي شكلتها (قحت) بقيادة عبدالله حمدوك , حيث استخدم مصطلح (حركات الكفاح المسلح رسميا لأول مرّة ) صارت أجهزة الإعلام الحكومية تستخدم هذا المصطلح فيما يعني الإقرار الحكومي بمشروعية مطالب الثوار , عكس أدبيات الحكومات السابقة التي ظلت تنكر عليهم هذا الحق .وعادت أجهزة الإعلام الحكومية لسابق سيرتها عقب إنقلاب البرهان/حميدتي في أكتوبر 2021م , ثم اكتملت الدائرة تماما بإشعال الحركة الإسلامية للحرب الراهنة في 15أبريل 2023م ضد الدعم السريع , وضد القوى المدنية السلمية .
المعادلة الحالية تقوم على فرضية وجود طرفين سياسيين , الطرف المسلّح والطرف السلمي . كل طرف يضم عناصر بأوزان متفاوتة , الطرف المدني السلمي يتشكل بصورة أساسية في تحالفي صمود والتغيير الجذري ؛ بإعتبار نأيهما عن الإنحياز الصريح للخيار العسكري ضمن خياراتهم السياسية , وهو ما لا ينطبق على عناصر الكتلة الديمقراطية مثلا التي تنحاز إلى جانب الجيش وبعض عناصرها تمتلك قوات مقاتلة ضمن تحالفه (مناوي/ جبريل ) أو تحالف تأسيس الذي من ضمن مكوناته الدعم السريع وحركات كفاح مسلح .
هل هناك بالفعل شح في المنتوج الفكري السياسي من جانب هذه القوى ؟ ألا توجد أفكار سياسية تصلح كقواعد للبناء ؟ هل الحكم بالتعميم موضوعي ؟
في تقديري لم تك الساحة عقيمة من افكار سياسية ناضجة , الصحيح ساد نوع من الانقسامات حول ما دون الأفكار , إنّ القوى التي انجبت إعلان الحرية والتغيير قدمت أفكارا سياسية متقدمة , الشعار حرية سلام وعدالة كان شعارا تقدميا , بعض السياسات العامة كذلك مثل , فكرة تفكيك التمكين ومحاسبة المفسدين واسترداد الممتلكات العامة المنهوبة , حظر نشاط المؤتمر الوطني وواجهاته الإرهابية وتفكيك مليشياته الإجرامية , فكرة تاسيس جيش وطني مهني قومي موحد ومعالجة مشكلة تعدد الجيوش , فك العزلة الخارجية والانخراط في المجتمع الدولي , تبني اصلاحات إقتصادية ضرورية لولاية وزارة المالية على المال العام و الاتجاه لتحسين مواصفات الصادرات , والتركيز على البنية التحتية , واصلاح قطاعات الأمن والتعليم والصحة , التوازن في العلاقات الخارجية ومحاولة بناء مركز سوداني مستقل , الانخراط في جهود وقف الحرب الأهلية وابرام اتفاقات السلام , والنجاح في هدنة مع بعض الفصائل التي لم تنجز معها اتفاقات ( الحلو/ عبدالواحد) .
هذه الخطوات وغيرها جاءت وليدة أفكار سياسية , فليس من المنطقي التغافل عنها وكأنها لم تك . صحيح هناك بعض الأفكار الأكثر تقدمية لم يتم اعتمادها بشكل مباشر ولكن لم يتم إلغاءها واستبعادها تماما , مثل فكرة المبادئ فوق الدستورية , طبيعة الدولة العلمانية , اللامركزية الواسعة .. إلخ .
تظل المشكلة الماثلة في تصوري في قلة حيلة القوى المدنية إزاء العقبات والمتاريس الهائلة التي نصبتها حقبة الحكم الإسلامي العسكري : التي امتدت في الواقع منذ العام 1983م بإعلان الشريعة الإسلامية كمرجعية للحكم . وتمكنت تماما بانقلاب يونيو1989م , تحت تلك المظلة المستمدة شرعيتها من تصورات تنظيم واحد للإسلام تشكلت عقبة كؤود أمام تحقيق الفكر السياسي المدني الديمقراطي القائم بالضرورة على الطبيعة العلمانية للدولة وقد عشنا مثلا تجربة التفاوض مع الحركة الشعبية شمال /قيادة الحلو في جوبا , والتي كادت تنجح في اختراق سياسي كبير لصالح السلام وبناء الدولة الوطنية الموحدة طوعيا , وبالفعل عقدت واحدة من أميز ورش العمل لمناقشة موضوع علاقة الدين بالدولة , توفرت لها خبرات وافكار محلية ودولية وتجارب مرموقة في بلدان ذات أغلبية مسلمة , كل ذلك الجهد تم تبديده بجرة قلم من جانب الفريق شمس الدين الكباشي عضو مجلس السيادة الانتقالي برفضه التوقيع على توصيات الورشة . لقد كان مقتل الأمل على يدي ضابط قائد في القوات المسلحة السودانية . هنا لم تملك القوى المدنية حيلة لمواجهة هذا الصلف العسكري الأيدولوجي المرتبط بالتنظيمات الإرهابية . الملاحظ أنّ قائد الدعم السريع الذي رأس الوفد الحكومي للمفاوضات لم يعترض على توصيات الورشة , بل كان داعما لها .
مرّة أخرى , عاودت القوى المدنية الحوار والتفاوض في إطار ما عرف بالاتفاق الإطاري ,شاركت فيه قوى خارج الحرية والتغيير كالمؤتمر الشعبي والإتحادي الديمقراطي الأصل ؛ التي اطلق عليها قوى الانتقال المدني , قدمت فيه أفكار سياسية معقولة كمحاولة لاسترداد مسار الانتقال المدني الديمقراطي , من أبرزها مسألة توحيد الجيوش , وخروج العسكريين في الجيش والدعم السريع من الشأنين السياسي والإقتصادي , وهي لبنات لازمة لاستدامة مسار الانتقال نحو الدولة المدنية الكاملة . هنا نجد أنّ المقاومة الشديدة لتلك الخطة السياسية قد شملت_ للمفارقة _ بعض القوى السياسية المدنية التي شاركت في الثورة وكان لها اسهامات مقدرة في اسقاط نظام البشير الإسلامي , مثل قوى تحالف التغيير الجذري , وبالطبع جاءت المقاومة الاساسية والأشرس ؛ من جانب قوى الإسلام السياسي / المؤتمر الوطني وواجهاته العديدة , وكذلك من جانب التيار الإسلامي الغالب في قيادة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية . وقد بلغ إعلان الموقف من ذلك المسار السياسي السلمي حد التلويح بالحرب التي لا تبقي من اثر لذلك التوجه والقوى التي تتبناه . وهو ما حدث بالفعل في اشعال حرب 15أبريل , بعد اعتبار موقف الدعم السريع كإنحياز وتقوية لمسار الحل السياسي السلمي . هنا أيضا نلحظ قلة حيلة القوى المدنية ومسارها السلمي , فهي لا تمتلك جيوشا أو مليشيات مدربة وجاهزة ومعبأة لخوض حرب من أجل الدفاع عن أفكارها السياسية . وبالتالي لم يك أمامها سوى الركون إلى موقفها الداعي إلى وقف الحرب واستعادة مسار التفاوض كطريق سالك لوقف آثار وإفرازات استمرار الحرب . هذا الموقف جيّر من جانب القوات المسلحة والقوى السياسية المتحالفة معها على أنّه انحياز لقوات الدعم السريع . ووضعها في خانة الدفاع المستمر أمام الضغط الهائل , وحملات الكراهية والتجييش العاطفي , لدرجة أنّ محاولتها الجريئة بتقديم الدعوة مباشرة لقائدي الجيش والدعم السريع لمشاورات تفضي إلى اتفاق حول مبادئ تفاوض مثمر تم إعتبارها خيانة وطنية استلزمت فتح بلاغات جنائية ضد قيادات تنسيقية (تقدم) من جانب الجيش . فما حيلة القوى السياسية المدنية إزاء هذه الإجراءات التعسفية الظالمة ؟
هنا برز تيار سياسي مؤثر , تبنى أفكارا سياسية أكثر جرأة , أعاد القضية السودانية إلى نقطة التأسيس . وطرح جملة مبادئ جوهرية , حازت على قبول قوات الدعم السريع ووقعت عليها , مثلما توافقت من قبل في مطلع العام 2024م على اعلان مبادئ لوقف الحرب مع تنسيقية تقدم . هل يجوز مع كل هذه الوقائع تكرار الحديث عن نضب الأفكار السياسية , أو شح المخزون النظري ؟ المطلوب في تقديري هو شحذ الإرادة لدى القوى السياسية المدنية تحديدا الراغبة في الحلول السلمية وفتح حوار جاد وموضوعي مع القوى التي تطرح مشروعا تأسيسيا واضحا , بغية تحديد المواقف بشكل صريح , فتكرار الشكوى من عدم وجود أفكار سياسية أو تشرذم القوى المدنية السياسية وغيرها من شكاوى لن يفيد شيئا ولن يقدم حلا .
القوى المنضوية تحت تحالفي صمود والجذري تحديدا , المطلوب رأيها الصريح في ميثاق التأسيس , ما تحفظاتهما المبدئية على مبادئ الميثاق ؟ هل ترى في طرح الدولة العلمانية خطأ , ما هي الدولة المدنية في تصوراتها ؟ وهل يمكن أن تكون الدولة الاسلامية دولة مدنية ديمقراطية ومرجعيتها الدين الإسلامي بمفهوم الإخوان المسلمين ؟ المسألة هنا ليست أقلية أو أغلبية , بل أساس الدولة نفسها . ثم متى كان السودانيون قد اختاروا الدولة الإسلامية ؟ فالتاريخ يقول إن أول دولة حديثة في القرن التاسع عشر كانت علمانية .كما لم يطالب قادة الاستقلال بالدولة الاسلامية ؛ بل ظهرت المناداة بها نتيجة ابتزاز حركة الإخوان المسلمين في الستينات . أم التحفظ على مكونات الميثاق وبصورة خاصة الدعم السريع ؛ باعتباره طرفا في الحرب ومنتهكا لحقوق الانسان ومرتكبا للموبقات ومعيدا سيرة الجهادية أيام الخليفة عبدالله التعايشي كما يظهر من بعض الكتابات التي تستدعي تلك التجربة الآن ومقارنتها ببعض ممارسات عناصر الدعم السريع خلال هذه الحرب ؟ حسنا , ما الفكر السياسي الناضج المطلوب في هذه الحالة ؟ أن يقال للدعم السريع أنت غير مرحب بك ضمن تأسيس سودان جديد . لا نريد توافقك مع بقية المكونات , يجب أن تحل نفسك أو نحلك بالقوة والسحق والاستئصال . القوى السياسية تريد سودان خال من التشكيلات العسكرية . حسنا ؛ميثاق تاسيس يطرح فكرة الجيش المهني الموحد تحت قيادة مدنية . والدعم السريع وافق على هذا الطرح للمرة الرابعة في الحقيقة , فقد ورد النص في اتفاقية جوبا , وفي الاتفاق الاطاري وفي اعلان مبادئ أديس أبابا مع تقدم , وفي ميثاق تاسيس مؤخرا . بل في اتفاق المنامة مع الجيش نفسه . مع كل هذا التطور في المواقف أو على الاقل القابلية لتطوير المواقف هل تستمر الفكرة الصمدية أم التحرك الإيجابي ناحية محاصرته بما أتفق عليه ؟ عند إدانة انتهاك من جانب الدعم السريع لماذا لا يتم الإشارة إلى تعهداته المضمنة في ميثاق التأسيس والتي أقرت الإلتزام بالمواثيق والعهود الدولية في شؤون الحرب والسلم كما تفعل بعض الجهات المنضوية تحت تحالف تأسيس نفسه . هل عدم الإعتراف بالسلطة التأسيسية يلغيها وقد حظيت بتعامل إقليمي ودولي , ماذا لو أصدرت هويات للمواطنين السودانيين الذين حرموا من الوثائق ومن ضمنهم عناصر في تحالف صمود ؟ هل يقال لهم كتر الله خيركم لا نريد هويات , أفضل أن يظل ملايين المواليد (بدون) ويستمر المحرومون من قياداتنا بلا هويات ؟ ماذا لو أدارت السلطة التعاملات المالية بعملات غير الجنيه الذي أصدرته سلطات بورتسودان , هل يقال لهم لا, عليكم وقف النشاط الإقتصادي لحين إنجاز التغيير الجذري مثلا بوساطة الثورة الشعبية السلمية . لو قدمت خدمات التعليم وامتحانات الدخول للجامعات يقال لهم لا , عليكم انتظار الفرج لحين رضا البرهان وعلي كرتي والدكتور الناجي مصطفى وقيادات المنظمات الإجرامية عن تلاميذكم ؟ ما المقصود بالضبط من أفكار سياسية جديدة يجب على الدعم السريع الامتثال لها حتى تتبدد مخاوف القوى المدنية , أي الأطراف العسكرية المنخرطة في القتال في الطرف الآخر أبدت وتبدي مواقفها المعلنة _على الأقل_ قبولا بجزء إن لم تك كل مطالب القوى المدنية والمبادرات الإقليمية والدولية .
التحليل موضوعي , الذي يستند إلى الوقائع المبذولة والأفكار السياسية المطروحة لا يمكنه تجاهل مبادئ التأسيس , فهي قد غاصت بالفعل إلى جوهر العقدة التاريخية واقترحت حلولا موضوعية , فما الجديد الذي يمكن انتاجه في القضايا المركزية مثل طبيعة الدولة (العلمانية), ولا مركزيتها , والوحدة الطوعية لمكوناتها . فهل يعوز المسار المدني السلمي الأفكار أم تكبله قلة الحيلة والتردد و ظلال الماضي وسردياته .
المصدر: صحيفة التغيير