سحب ترخيص لينا يعقوب يكشف عورة السلطة في السودان
أحمد عثمان جبريل
❝ الذين يقصّون أجنحة الحقيقة، لا يستطيعون الطيران فوق جثث الأكاذيب.❞
ميلان كونديرا
ليست هذه المرة الأولى التي يُستهدف فيها الصحفيون في السودان، لكنها الأوضح؛ إذ يمسك من يُفترض أنه واحدٌ منهم بالسكين، ويطعن بها ظهر زملائه. يا لهذا العار.
فالقرار الصادر عن وزارة الثقافة والإعلام والسياحة، بإيقاف الزميلة لينا يعقوب، مديرة مكتب قناتي “العربية” و”الحدث” في السودان، وسحب ترخيصها، لم يكن قرارًا إداريًا، بل رد فعل غاضب من سلطة مرتعشة، بحُجج مرتبكة، انكشف من خلالها سرٌ ثقيل:
البشير ليس في مستشفى مروي العسكري يتلقى العلاج، مع رفقائه الأربعة، بل في منتجع بمروي، يتمتع بخدمة فندقية من فئة السبعة نجوم، مع هواتف محمولة، ورعاية تفوق ما يحصل عليه آلاف المرضى والنازحين والمساجين في البلاد.
الصحفية المهنية القديرة لينا يعقوب لم تفعل أكثر من واجبها المهني. قدّمت تقريرًا موثقًا عن تواجد البشير ورفاقه بعد نقلهم من “كوبر” إلى مستشفى السلاح الطبي، ثم إلى قاعدة وادي سيدنا بأم درمان، وأخيرًا إلى منشأة في مروي، مجهّزة بكل وسائل الراحة، بعيدًا عن ضجيج الخرطوم، وذباب وبعوض المستشفيات.
لكنها، دون أن تدري، وضعت يدها على عصب مكشوف. البشير ورهطه خافوا من استهدافهم بطائرة مسيّرة بعد كشف مواقعهم، فطالبوا بتغيير مكان “معتقلهم الفندقي”. ومن هنا بدأ الهلع داخل أجهزة السلطة، التي وجدت نفسها محرجة أمام هذا التواطؤ الفاضح مع رموز النظام السابق، بعد أن ظلت تردد أن البشير يتلقى عناية طبية في مستشفى مروي العسكري، لمعاناته من أمراض مزمنة.
وبدلًا من الرد الرسمي بفتح تحقيق في ظروف احتجاز البشير، أو مساءلة من أذن بنقله إلى المنتجع، ومحاسبة الجهة التي وفرت له الهواتف والتسهيلات، جاء الرد في شكل عقوبة واحدة، مركزة وسريعة: إسكات لينا.
والأدهى، أن القرار استهدف الصحفية لا القناة التي تتبع لها، والتي نشرت التقرير. هذا التمييز الفجّ يكشف أن القضية لم تكن رفضًا للمادة الصحفية نفسها، بل انتقامًا من “لينا التي تجرأت”. فالقناة لا تزال موجودة ومرحب بها، أما الصحفية فتم تجريدها من ترخيصها واعتبار ما قامت به جريمة تستوجب الإيقاف.
ولا يمكن هنا تجاهل شخصية وزير الإعلام نفسه، خالد الإعيسر، الذي لطالما قدّم نفسه كأحد أبناء “قبيلة الإعلاميين”، لكنه اختار في هذا القرار أن يكون ممثلًا للسلطة، لا حارسًا على شرف المهنة.
لقد أمسك ذلك المأمور المسكين بالسكين من يد الدولة، لا من ضمير الصحافة، وطعن بها زميلة لم ترتكب جرمًا، بل كشفت ما حاولوا طمسه. ما يجعلنا نقول بوضوح:
“ليس أسوأ من سلطة تقمع الصحافة، إلا إعلامي أرزقي يبرر لها ذلك القمع”.
ربما يحاول وزير الإعلام تجميل صورته أمام البرهان، عسى أن يُعاد إليه ما سُحب منه من مهام. لكنه يعلم تمامًا أن مبررات القرار هزيلة، راجفة، لا تصمد أمام أبسط مساءلة مهنية أو حتى قانونية.
لم يقدّم بيان الأعيسر للرأي العام دليلاً واحدًا على “الإضرار بالأمن القومي” أو “المصلحة العامة” التي تذرّعت بها وزارته.. كل ما جاء في البيان الرسمي مجرد عبارات فضفاضة، صالحة لتكميم أي صحفي في أي وقت.
ومع ذلك، وقّع الوزير القرار، وتبناه، وروّج له، وكأن ما فعلته الوزارة ليس انتكاسة خطيرة، بل واجب وطني!
أستطيع القول هنا إن الرسالة لم تكن موجهة للزميلة لينا وحدها، بل لكل صحفي يفكر في كسر الصمت، أو كشف ما لا تريد السلطة أن يُكشف.
إنها محاولة لزرع الخوف، وتحويل الصحفيين إلى كَتَبَة في بلاط السلطة، في زمن الحرب العبثية، لا شهودًا على الواقع والحقيقة المغيبة.
لكن المفارقة أن هذا القرار، بكل قسوته، فشل في تحقيق هدفه.
لم يُطفئ الجدل، بل أشعله.
لم يُرعب الصحفيين الأحرار، بل أيقظ فيهم ذاكرة قمع أمن البشير، أيام كان كل شيء يبدأ بتبرير “الأمن القومي” وينتهي في المعتقلات.
لم يُسكت الحقيقة، بل جعل صوتها أعلى.
وما يُثير الغثيان أكثر، أن هذه الحكومة، التي جاءت على ظهر شعب ثائر لا على ظهر دبابة، لا تزال تدّعي تمثيل “ما بعد الثورة”، بينما تمارس قمعًا لا يقل بشاعة عن نظام البشير. بل قد يفوقه نفاقًا، لأنه يلبس قناع “ثورة الحرية”، بينما يسير على خطى الطغيان القديمة، بوقاحة أشد، ومن دون حتى اجتهاد في التمويه.
قرار إيقاف لينا يعقوب، في جوهره، ليس إلا دليلًا على عمق الأزمة الأخلاقية التي تعيشها السلطة في السودان اليوم.
أزمة لا تتعلق بصحفية أو تقرير، بل بمنظومة لا تحتمل النور، لأنها تعيش على الظل. نظام لم يسقط بعد، بل غيّر شكله ومقرّه، وها هو يُطل من مروي، في حماية امتيازات الدولة، وتحت عناية أمنية خاصة، يخشى فيها البشير من طائرات العدو، أكثر من خوفه من عدالة الشعب.
وإذا لم يغضب المجتمع لإسكات صوت صحفي كشف أن جلاده القديم يعيش حياة أفضل من ضحاياه، فمتى يغضب؟
وإذا سكتنا عن هذه الطعنة، فلن تكون لينا الأخيرة، بل ستكون البداية.
الصحافة يا إعيسر ليست مجرد مهنة، إنها مرآة المجتمع.. وكسر المرآة لا يخفي القبح، بل يفضحه أكثر.
وإذا كانت لينا يعقوب دفعت الثمن لأنها اقتربت من الحقيقة، فذلك لأن الصحافة في السودان، لا تزال في عقل (الكيزان) جريمة.
إنا لله ياخ… الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير