06:04 م
الجمعة 19 سبتمبر 2025
الوادي الجديد محمد الباريسي:
كشف كهف صغير يقع في أعماق الصحراء الغربية جنوب غرب مصر وتحديدا جنوب غرب محافظة الوادي الجديد، عن سرّ مذهل يغيّر نظرتنا إلى الماضي البعيد.
على جدران هذا الكهف، المعروف باسم “كهف السباحين”، نقشت منذ آلاف السنين رسومات غامضة تُظهر أشخاصًا في وضعيات سباحة، في وقت لم تكن فيه الصحراء الكبرى جافة كما نعرفها اليوم، بل واحة خضراء خصبة مليئة بالبحيرات والحياة.
قبل الدخول في تفاصيل الكهف، تعود القصة إلى أزمنة سحيقة، ويعتقد بعض علماء الآثار أن أولى الهجرات البشرية انطلقت من أفريقيا قبل نحو مليوني عام، بينما انتشر الإنسان العاقل خارجها منذ قرابة 100 ألف سنة تقريبا، ويُعتقد أن مصر كانت أحد الممرات الرئيسية في هذه الهجرات المتجهة نحو آسيا.
هذا ما أكده الأثري محمد إبراهيم، مدير الآثار بالوادي الجديد، قائلا: لكن مع مرور العصور وتغير المناخ، تبدلت ملامح الأرض، حتى أصبحت مصر القديمة معروفة بوادي النيل، ثم توحّدت ممالكها العليا والسفلى تحت حكم الفراعنة، الذين صُوّروا في النقوش وهم يرتدون تاجين يرمزان للوحدة.
يوضح الدكتور عبد المنعم حنفي، أستاذ الجغرافيا المتفرغ ومن أبناء مركز الداخلة، محافظة الوادي الجديد، أن مناخ مصر في عصور ما قبل التاريخ كان أكثر رطوبة مما هو عليه الآن، مناطق شاسعة من الصحراء الغربية، التي تُعرف اليوم بجفافها وقسوتها، كانت ذات يوم خصبة تعج بالنباتات والحيوانات، وهنا يظهر موقع كهف السباحين كدليل حي على هذا التحول البيئي الكبير.
قال عبد المنعم، إن أول من استكشف المنطقة ” الجلف الكبير ” هو البرنس كمال الدين حسين، عام 1923 بينما في أكتوبر عام 1933، وأثناء بعثة استكشافية في منطقة “الجِلف الكبير” بالقرب من الحدود الليبية، عثر المستكشف المجري لازلو ألماسي على الكهف المثير، كان الاكتشاف مصادفة، لكنه سرعان ما تحول إلى علامة فارقة في دراسة فنون ما قبل التاريخ.
ووفق ما أكده ألماسي في كتابه “الصحراء المجهولة” عام 1934، فإن الرسومات تُظهر أشخاصًا في أوضاع شبيهة بالسباحة، وهو ما دفعه للاعتقاد بأن المنطقة كانت تحتوي على بحيرات أو مجاري مائية.
أكد الدكتور عبد المنعم، يقع كهف السباحين في وادي صورة ضمن هضبة الجلف الكبير، التي تعني “الحاجز العظيم”، ويضم الكهف مئات الرسوم الصخرية الصغيرة والواضحة، تُقدر بأنها تعود إلى ما بين 6 آلاف و9 آلاف عام تقريبا.
الرسوم لا تقتصر على السباحين فقط؛ فهناك نقوش لزرافات وبشر في أوضاع مختلفة، ويرى بعض الباحثين أن هذه اللوحات توثق شكل الحياة اليومية في تلك الفترة، بينما يعتقد آخرون أنها رمزية أكثر منها واقعية.
لم يقتصر حضور كهف السباحين على الدراسات الأكاديمية، بل دخل الثقافة الشعبية العالمية عندما ظهر في رواية “المريض الإنجليزي” للكاتب مايكل أونداتجي، التي تحولت عام 1996 إلى فيلم سينمائي شهير حاز على جائزة الأوسكار. مشاهد الكهف في الفيلم أثارت فضول ملايين المشاهدين حول العالم.
أشار محسن عبد المنعم، مدير الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد، إلى أنه خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، انطلقت عدة بعثات لاستكشاف الصحراء الليبية والمصرية، وأول من استكشف منطقة الجلف الكبير هو الأمير كمال الدين حسين في عام 1923، بينما جاء الإعلان الرسمي عن المنطقة ورسمها على الخرائط في عام 1926، ثم كان ألماسي إلى جانب المستكشف البريطاني رالف باجنولد، وباتريك كلايتون، ودوغلاس نيوبولد، وكينيدي شو.
تابع قائلا : هذه الحملات استخدمت لأول مرة السيارات والطائرات في رسم الخرائط، ففي عام 1932، استُخدمت طائرة صغيرة لرصد أودية خفية مليئة بالنباتات في الجلف الكبير، وبعد عام واحد فقط، تمكن ألماسي من دخول وادي صورة واكتشاف الكهف المرسوم داخله.
ولفت محسن، إلى أنه في عام 2007، اكتشفت عالمة الجغرافيا المصرية إيمان غنيم بحيرة قديمة مدفونة تحت رمال الصحراء الكبرى بمساحة تقارب 30 ألف كيلومتر مربع. هذا الاكتشاف ربطه العلماء بما تشير إليه رسومات السباحين، باعتبارها أدلة على وجود مسطحات مائية ضخمة في الماضي.
كهف السباحين ليس وحيدًا في المنطقة، فهناك أيضًا “كهف الوحوش” وغيره من الكهوف التي تحمل نقوشًا متصلة تظهر تطور فن الكهوف، هذه الاكتشافات مجتمعة تدعم فكرة أن المنطقة كانت مركزًا حضاريًا قديمًا ساهم في تشكيل ثقافة وادي النيل لاحقًا.
جدير بالذكر أنه تغطي هضبة الجلف الكبير مساحة تصل إلى 7770 كيلومترًا مربعًا، أي ما يعادل حجم دولة مثل بورتوريكو، وهي ليست مجرد صحراء، بل متحف طبيعي مفتوح يضم آلاف النقوش التي تعود لعصور ما قبل التاريخ، من مشاهد الصيد إلى تصوير مستوطنات بشرية.