مقدمة

أصبحت المنصات الرقمية المعاصرة الفضاء الأبرز لتشكيل الرأي العام وصياغة الوعي الجمعي. ومع صعود ما يُعرف بـ”المؤثرين” و”الناشطين الرقميين”، برز نمط جديد من إنتاج المعرفة يقوم على إعادة تدوير الأفكار الجاهزة وتسويقها في قوالب مختصرة وسهلة الاستهلاك. هذا النمط وإن كان يوفّر الوصول السريع للمعلومة يؤدي عملياً إلى تسطيح الوعي، وإلى إحلال “التمثيل الجاهز” محل التفكير النقدي الحر، بما يشبه حالة استلاب معرفي¹ تتنازل فيها الذات عن حقها في التفكير المستقل. هذه الظاهرة ليست مجرد انحراف ثقافي، بل تعبير عن بنية عميقة للاقتصاد الرقمي الذي يسعى إلى توجيه الانتباه الجماعي وتحويله إلى سلعة قابلة للاستثمار.

1. الأفكار الجاهزة واقتصاد الراحة الفكرية

تعمل الأفكار الجاهزة على تقديم إجابات مختزلة لمسائل معقدة، وتخلق وهماً بالمعرفة دون عناء التحليل أو البحث. وكما يشير الفيلسوف الفرنسي غي ديبور في كتابه مجتمع الاستعراض، يتحوّل الواقع إلى صور يتم استهلاكها بدلاً من فهمها، ويصبح الوعي مجرد “مشاهدة” لا “ممارسة نقدية”. هذه العملية تمنح المتلقي راحة فكرية آنية، لكنها تنزع عنه دينامية التساؤل التي تمثل جوهر الفلسفة، فيتحول الوعي إلى مجرد استهلاك لرموز وشعارات بدلاً من إنتاج معرفي مستقل.

2. التأثير بوصفه وصاية معرفية

ظاهرة المؤثرين تتجاوز الإلهام الفردي إلى شكل من أشكال الوصاية على العقول:

المؤثر لا يقدّم فكرة للنقاش، بل يحدد مسبقاً ما يجب أن يعتقده المتلقي.

يتحوّل من محفّز على التفكير إلى بديل عنه، فيمارس نوعاً من “التفكير بالوكالة”.

النتيجة هي تعليق ملكة النقد لدى الجمهور، وتحوّلهم إلى متلقّين سلبيين داخل فقاعة فكرية مغلقة.

وهذا يتقاطع مع ما أشار إليه أدورنو وهوركهايمر في نقدهما لـ”صناعة الثقافة”، حيث أوضحا أن الثقافة الجماهيرية لا تكتفي بتقديم الترفيه، بل تعمل كأداة للضبط الاجتماعي² عبر تشكيل أذواق الناس وأفكارهم بما يضمن انسجامهم مع النظام القائم دون مقاومة.

3. تسطيح القضايا وصناعة القطيع

القضايا الاجتماعية والسياسية المعقّدة تختزل في خطاب شعاراتي عاطفي:

يُستثار الجمهور آنياً عبر مقاطع قصيرة وصور مثيرة، فيستجيب عاطفياً لا عقلياً.

يُستبدل الحوار العقلاني بالتعبئة اللحظية والمزايدات اللفظية.

يتحوّل المتابع إلى جزء من قطيع رقمي³ ينفعل مع كل موجة شائعة دون امتلاك أدوات تفكيك نقدي.

ويعزز هذا الطرح ما ذهب إليه غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجيا الجماهير، حيث بيّن كيف يصبح الفرد داخل الحشد أقل عقلانية وأكثر خضوعاً للإيحاءات العاطفية.

4. من الفضاء الرقمي إلى الفعل السياسي

مع تنامي نفوذ المؤثرين، لم يعد حضورهم مقتصرًا على المجال الافتراضي، بل بدأ بعضهم في الانضمام إلى الأحزاب السياسية أو لعب دور غير مباشر في الدعاية الانتخابية.

هذا يثير إشكالات فلسفية وأخلاقية عميقة:

شرعية التأثير: هل يحق لمن بنى شعبيته على محتوى ترفيهي أن يوجّه الرأي العام سياسيًا؟

خطر التلاعب: قد يتحوّل الجمهور إلى قاعدة انتخابية جاهزة يتم تعبئتها دون تمكينها من تحليل البرامج أو المواقف.

تسليع السياسة: عندما يصبح الانضمام إلى حزب جزءًا من “العلامة الشخصية” للمؤثر، تتحوّل السياسة إلى منتج آخر في سوق الشهرة.

محاولة للإجابة:

يمكن القول إن الظاهرة تحمل إمكانية مزدوجة:

قد تساهم في تجديد السياسة عبر جذب فئات شابة كانت بعيدة عن العمل الحزبي.

لكنها، إن لم تُؤطَّر أخلاقيًا وقانونيًا، قد تعمّق ظاهرة الشعبوية الرقمية⁴ وتحول السياسة إلى عرض تسويقي.

5. الاقتصاد الرقمي وخوارزميات التوجيه

الاقتصاد الرقمي يستثمر في هذا النمط لأنه الأكثر ربحية:

الخوارزميات تدفع بالمحتوى الذي يولد أكبر قدر من التفاعل، لا الذي يثري المعرفة.

الأفكار المعقدة تتراجع لأنها لا تحقق نفس معدل الانتشار.

النتيجة هي إنتاج وعي هش وسريع التأثر، يسهل توجيهه سياسياً واقتصادياً، وهو ما ينسجم مع تحليل زيغمونت باومان لمجتمع الاستهلاك السائل حيث تصبح العلاقات والأفكار سريعة الزوال.

6. نحو استعادة المبادرة الفكرية

المواجهة لا تكون برفض المؤثرين كلياً، بل بإعادة وضعهم في إطارهم الصحيح:

إحياء الوعي النقدي: تحويل كل محتوى إلى موضوع للمساءلة لا مجرد استهلاك.

تفكيك الأفكار الجاهزة: تحليل جذورها وشروط إنتاجها والبحث عن بدائل أعمق.

تحرير العقل الفردي: جعل المؤثرين محفّزين لا أوصياء على التفكير، واستعادة الاستقلال الذهني عن الخوارزميات.

خاتمة فلسفية

إن أخطر ما تفعله ظاهرة المؤثرين ليس الترفيه أو التسويق، بل إنتاج وعي مسطّح يختزل الواقع في معادلات سهلة ويستبدل البحث الحر بوصفات فكرية سريعة.

وعندما يمتد هذا التأثير إلى السياسة، فإنه يهدد بتحويل الفضاء العمومي إلى سوق للمزايدات الرمزية بدل أن يكون ساحة للنقاش العقلاني.

الحفاظ على حرية الفكر في زمن الاقتصاد الرقمي يتطلب استعادة المعنى الأصيل للفعل السياسي بوصفه مسؤولية فكرية قبل أن يكون انتماءً تنظيمياً، وتحويل المنصات الرقمية من آليات للتسطيح إلى فضاءات للتفكير النقدي الجماعي.

الحواشي

1. الاستلاب المعرفي: حالة يفقد فيها الفرد استقلاله الفكري، ويصبح متلقياً للأفكار من الخارج دون نقد أو تمحيص.

2. الضبط الاجتماعي: آليات غير مباشرة (ثقافية، إعلامية، تربوية) تهدف إلى جعل سلوك الأفراد منسجماً مع القيم السائدة.

3. القطيع الرقمي: وصف لحالة التبعية الجماعية على الإنترنت، حيث يتبنى الأفراد مواقف وآراء لمجرد انتشارها.

4. الشعبوية الرقمية: توظيف لغة عاطفية مبسطة عبر وسائل التواصل لجذب دعم جماهيري سريع على حساب النقاش العقلاني.

المراجع

Adorno, T. & Horkheimer, M. (1947). Dialectic of Enlightenment.

Debord, G. (1967). La Société du Spectacle.

Le Bon, G. (1895). Psychologie des Foules.

Bauman, Z. (2000). Liquid Modernity.

 

 

 

المصدر: العمق المغربي

شاركها.