آخر تحديث:

ا.م.د. حيدر علي الاسدي 

يعد أدب الرحلات مغامرة ثقافية نحو المعرفة وتلاقح الأفكار والثقافات بين الشعوب والمجتمعات، وهي تنزه سياحي ثقافي في عقول المجتمعات الأخر “بما تشتمله من طقوس وعادات وطبائع وسلوكيات وأمكنة” وتكمن جماليته في قدرة الرحالة “الكاتب” على نقل تجاربه ومشاهداته بأسلوب مشوق وجذاب، بما فيها من وصف للعادات والجغرافية والمشاهد الحياتية المتنوعة، فضلا عن انطباعات الرحالة وتجاربه وقصصه في تلك البلدان. فهو أدب يعتمد بالكامل على الوصف الدقيق لكل تلك الأشياء التي برع فيها “ابن جبير”. ويمتاز ابن جبير بالوصف الدقيق بتوثيق الأحداث لنقل تجاربه، وهذا الوصف المتقن أضاف جمالية لسرده ولرحلته، ومنها قضية استخدام التشبيهات والاستعارات والصور البلاغية، التي تقدم للقارئ مادة كتابية وصورية متكاملة عن تلك الأمكنة فالوصف يقدم حيوية تشاركية في ادب الرحلات يتجسد ما بين التعبير عن ذات الرحالة ومشاعره وانطباعاته وما بين الوصف التقني لكل مشاهدته (كما هي) مع تعليقاته النابعة من شعوره الذاتي آنذاك، ولم يكن أدب الرحلات متعة ترفيهية أدبية وحسب بل يقدم رؤية واضحة لدارسي التاريخ وعلم الاجتماع وحتى الجغرافية نظراً لما تحمله تلك الرحلات من تفاصيل عن الأزمنة والأمكنة والظواهر الطبيعية في تلك الحقب مما يتطلب لغة عالية وتصوير دقيق للأشياء التي يواجهها الرحالة، لا شك ان الرحالة محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي الذي ولد في مدينة فالنسيا الاسبانية عام 540 للهجرة كان ملماً بالكتابة والشعر وأساليب النثر وعلوم الدين لذا كانت وصفياته لرحلته بالغة الروعة والدقة، وكانت رحلته قد شملت  قصد (الحج) ومن ثم مصر والحجاز ونجد والعراق والشام وبلدانًا أخرى دون خلالها مذكراته اليومية وحلل الظواهر والسلوكيات الاجتماعية في تلك المدن، وبعد عودته قام احد تلامذته بجمع تلك المدونات بكتاب مهم اسمه “تذكرة بالإخبار عن اتفاقات الأسفار” ثم ذاع صيته في ما بعد باسم “رحلة ابن جبير” وهي ثلاث رحلات أصبحت في ما بعد من اهم المصادر التاريخية والجغرافية، وسنتكلم فقط عن رحلته الى أرض العراق والتي زار خلالها الكوفة والحلة وبغداد والموصل وبعض القرى المجاورة واطلع على طبائع أهلها ولم يكن ابن جبير معجباً ببغداد حال وصوله، وكانت أوصافه كلها سلبية عن بغداد وأهلها، فقد قال في وصف بغداد ((هذه المدينة العتيقة…..قد ذهب اكثر رسمها ولم يبق منها الا شهير اسمها /ص193)) 1 وقد انتقد سلوكيات اهل بغداد بقسوة، ويضيف ايضاً عن رحلته لمدينة بغداد: ((وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، ويتفقده الاطباء كل يوم اثنين وخميس ويطالعون احوال المرضى به، ويرتبون لهم اخذ ما يحتاجون اليه وبين ايديهم قومة يتناولون طبخ الادوية والاغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية والماء يدخل اليه من دجلة/ ص201))  ويستمر بوصف الأمكنة بدقة متناهية في تلك المرحلة التاريخية: ((واما حماماتها فلا تحصى عدة، ذكر لنا احد اشياخ البلد انها بين الشرقية والغربية نحو ألفي حمام، واكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل للناظر أنه رخامٌ أسود صقيل، وحمامات هذه الجهات اكثرها على هذه الصفة لكثرة القار عندهم/ص202)) اما وصفه لتكريت فكان فيه نوع من اللهفة والاعجاب بهذا المكان: ((هي مدينة كبيرة واسعة الارجاء فسيحة الساحة حفيلة الاسواق، كثيرة المساجد غاصة بالخلق، اهلها احسن اخلاقا، وقسطاً في الموازين من اهل بغداد ودجلة منها في جوفيها ولها قلعة حصينة على الشط هي قصبتها المنيعة ويطيف بالبلد سور قد اثر الوهن فيه/ ص208)) وذكر ابن جبير في مدونات رحلته مدينة الحلة بوصف جميل قائلاً: (هي مدينة كبيرة، عتيقة الوضع ….ولهذه المدينة اسواق حفيلة جامعة للمرافق المدنية والصناعات الضرورية، وهي قوية العمارة، كثيرة الخلق، متصلة حدائق النخيل داخلاً وخارجاً فديارها بين حدائق النخيل وألفينا بها جسراً عظيماً معقوداً على مراكب كبار متصلة من الشط الى الشط، تحف بها من جانبها سلاسل من حديد كالأذرع المفتولة عظماً وضخامة ترتبط الى خشب مثبتة في كلا الشطين، تدل على عظم الاستطاع والقدرة/ ص189)) واجمل ما يتصف به ابن جبير هو وصفه للطرق والامكنة وهو وصف ساحر يعبر عن انبهاره واعجابه وهو ما يتميز به اكثر من وصفه للطبائع والسلوكيات حيث وصفه للمكان يدل على براعته في التعبير عن الأمكنة بأوصاف بلاغية قوامها حلاوة المفردة وتعبيرها الدلالي، فهو يقول في مدونة رحلته: ((والطريق من الحلة الى بغداد احسن طريق واجملها، في بسائط من الارض وعمار تتصل بها القرى يميناً وشمالاً . تشق هذه البسائط أغصان من ماء الفرات تتسرب بها وتسقيها، فمحرثها لا حد لاتساعه وانفساحه، فللعين في هذه الطريق مسرح انشراح، وللنفس مراح انبساط وانفساح والامن فيها متصل/ ص190)) اما وصفه الى الموصل (وللبلدة ربض كبير فيه المساجد والحمامات والحانات والاسواق واحدث فيه بعض امراء البلدة، وكان يعرف بمجاهد الدين جامعاً على شط دجلة ما أرى وضع جمع أحفل منه بناء يقصر الوصف عنه وعن تزيينه وترتيبه، وكل ذلك نقش في الآجر، وأما مقصورته فتذكر بمقاصير الجنة ويطيف به شبابيك حديد تتصل بها مصاطب تشرف على دجلة لا مقعد اشرف منها ولا احسن ووصفه يطول/ 210) أن ثمة جماليات في وصفيات رحلة ابن جبير (وصف المكان) وصف الظواهر وصف طباع الناس وصف الزمن من خلال وظائف الوصف (التزينية) والوظيفة الايهامية والوظيفة التفسيرية وظيفة الاخبار والتمثيل، كلها تجسدت في جماليات وصفيات ابن جبير في رحلته سواء للبلدان العربية او حتى لمدن العراق رغم أن ثمة ملامح مهمة لقارئ هذه الرحلة والتي تهيمن عليها (طابع التفكير الديني/ التركيز الديني) على وصفياته، وهذا ما يمكن تفسيره بانعكاس الطابع الشخصي لمرجعياته الرحالة ابن جبير ومتبنياته الدينية على المستوى الأيديولوجي وحتى الاجتماعي، اذ امتازت رحلته بطابع ديني منذ انطلاقه للحج حتى وصفياته للمدن، فقد كان يوصف مجالس الوعظ والعلماء في بغداد حتى أنه كرر زيارة مثل تلك المجالس وأشار لها في مدونات رحلته، أنها رحلة تستحق القراءة والدراسة على جميع المستويات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية وحتى الدينية والسياسية.

شاركها.