أمد/ في زمنٍ يشتدُّ فيه الليلُ على فلسطين، يظلُّ الشعبُ ثابتًا، مرفوع الرأس، يحوِّل الجراح إلى أناشيد، ويزرع من دمه حدائق للخلود.

النص:

ثابتٌ مرفوعُ الرأس…!

1

يا محلا النصر…

حين يطلُّ من عيونِ شعبٍ،

تخبّئُ في سوادها دمعةَ يتيم،

وفي بياضها شمسَ الفجر،

تُضيءُ الدربَ …

وتُربكُ الظلام …

2

من غزّةَ المقيّدة بالموج والدمار،

إلى القدسِ المعلّقة …

على عنقِ التاريخ،

من رفحَ المبتلةِ بالدمع والدم،

حتى جنينَ المغموسةِ بالندى،

ينبثقُ صوتٌ واحد،

كأنهُ نهرٌ يفيضُ من صخر،

أو برقٌ يتناسلُ في الغيوم:

لا فرار…

لا انكسار…

فالجَبينُ لا يعرفُ …

إلّا وجهةً واحدة،

إلى الأمام…

حيثُ يولدُ النهار…

3

هنا،

في وطنٍ يعلّمُ أبناءه…

أن يكونوا كالزيتون،

أعناقُهم تعانقُ الريح،

وجذورُهم تُمسكُ بالأرضِ كالعهد.

هنا يولدُ الشهيدُ كما يولدُ القمح،

ويصحو الثائرُ كما تصحو الجبال،

شعبٌ يخطُّ بدمهِ أناشيدَ البقاء،

ويزرعُ من أشلائهِ حدائقَ للخلود…

4

لا أمنَ… ولا سلام…

ما دامَ القيدُ في اليد،

والغاصبُ فوقَ الصدر،

والقدسُ تُسرقُ في وضحِ النهار…

سلامُنا هو الحريّة،

أمنُنا هو زوالُ الاستيطان،

قرارُنا هو العودةُ مرفوعي الرأس،

إلى بيوتٍ ما زالت تنتظرُ مفاتيحها،

وتحفظُ على جدرانها أسماءَ أصحابها…

5

بعونِ الواحدِ الأحد،

الذي ينصرُ المظلومَ على الطغيان،

وبعزمِ شعبٍ لا يهابُ التضحية،

يحوّلُ الجراحَ إلى أغانٍ،

والشهداءَ إلى أعراس،

ليكتبَ بدمهِ الطاهرِ

أبجديةَ الحريّةِ الأولى…

6

يا محلا النصر…

حين يزهرُ في عيونِ الصابرين،

ويتجذّرُ في صدورِ الأمهات،

ويُزفُّ على أكتافِ الأطفال…

يا محلا النصر…

حين يصبحُ الخلودُ …

عنوانَ هذا الشعب،

الذي لم ينحنِ،

لم يساوم،

وظلّ ثابتًا، مرفوعَ الرأس…!

قراءة في نص “ثابت مرفوع الرأس” للدكتور عبد الرحيم جاموس

تمهيد: صورة المقاومة الجمعية

يقدم الدكتور عبد الرحيم جاموس في هذا النص الشعري لوحة ملحمية للمقاومة الفلسطينية، يرسم فيها صورة شعب يتحول معاناته إلى مصدر لقوته، ويحول جراحه إلى أناشيد للخلود.

التحليل البنيوي والفني

١. البناء التركيبي:

· التكرار الدلالي: “ثابت مرفوع الرأس” كتيمة مركزية تعبر عن الصمود

· التقسيم إلى مقاطع: ستة مقاطع متتابعة تقدم سرداً تصاعدياً للمقاومة

· الانزياح الزمني: يجمع بين الماضي (التهجير)، الحاضر (المقاومة)، المستقبل (النصر)

٢. الصور الفنية:

· الصور الطبيعية: “شمس الفجر”، “نهر يفيض من صخر”، “الزيتون” رموز الحياة والديمومة

· الصور الجسدية: “الجَبينُ لا يعرفُ إلّا وجهةً واحدة” تجسيد الإرادة

· الصور الزراعية: “يولدُ الشهيدُ كما يولدُ القمح” دورة الحياة والاستمرار

٣. التقنيات الأسلوبية:

· الطباق: “الليل” “الفجر”، “الدمع” “الدم”

· الاستعارة: “القدسُ المعلّقة على عنقِ التاريخ”

· الكناية: “بيوتٍ ما زالت تنتظرُ مفاتيحها”

الأبعاد الدلالية والرمزية

١. بعد المقاومة الوجودية:

النص يقدم فلسفة للمقاومة تتجاوز السياسة إلى الوجود:

· “يحوّل الجراحَ إلى أغانٍ” تحويل المعاناة إلى إبداع

· “والشهداءَ إلى أعراس” تحويل الموت إلى حياة

· “أبجديةَ الحريّةِ الأولى” الكتابة بلغة التضحية

٢. بعد التراث والجذور:

· “كَالزيتُون، أَعناقُهُمْ تَعانقُ الرِّيح، وَجُذورُهُمْ تُمسكُ بِالأَرضِ كَالعهد” التواصل مع الأرض والتراث

· “تحفظُ على جدرانها أسماءَ أصحابها” الذاكرة الجماعية

٣. بعد الوحدة المصيرية:

· “من غزّةَ… إلى القدسِ… من رفحَ… حتى جنينَ” توحيد الجغرافيا الفلسطينية

· “صوتٌ واحد” التجانس في التنوع

الخصائص الأسلوبية المميزة

١. اللغة الملحمية: تستحضر نمط السرد البطولي

٢.الإيقاع التراتيلي: يشبه الأناشيد الحماسية

٣.التكرار الإيقاعي: “يا محلا النصر” كمنعه يعزز البنية الموسيقية

٤.الانزياح الدلالي: تحويل المفردات العادية إلى رموز (الجراح → أناشيد)

القراءة النقدية

قوة النص:

· يجسد روح الصمود بطريقة شعرية مؤثرة

· يوظف الرمزية ببراعة لتعميق الدلالة

· يحول المأساة إلى أمل دون التغاضي عن الواقع المؤلم

الإشكالية:

· يقدم رؤية مثالية قد تتجاهل تعقيدات الواقع السياسي

· يستخدم لغة بطولية قد لا تعكس التنوع في التجارب الفلسطينية

/// الخاتمة: شعرية المقاومة

هذا النص يمثل نموذجاً للأدب المقاوم الذي لا يكتفي بتسجيل المعاناة بل يتحول إلى سلاح في المعركة الوجودية. الدكتور جاموس يقدم هنا ليس مجرد قصيدة، بل بياناً شعرياً يخلد صورة الشعب الذي يرفض الانكسار.

“ثابت مرفوع الرأس” هو تجسيد لشعرية لا تنفصل عن السياسة، وفن يتحول إلى فعل مقاومة، وكلمات تثبت أن القلم قد يكون أقوى من السيف في معارك البقاء والهوية.

تحياتي واحترامي ا.د عادل جوده @عادل جوده

………………………………….

تعليق وتحليل الشاعرة والناقدة الدكتورة أمل عبدو لها كل التحية والتقدير والاحترام والمحبة والشكر الجزيل.

النص لوحة من الصمود يرسم فيها الشعب الفلسطيني ملامح الخلود، فيعلو صوته من تحت الركام ليعلن أن الكرامة لا تُباع ولا تُشترى.

إنه صوت النصر الذي يتجلّى في عيون الأمهات ودموع اليتامى، فيغدو الحزن بذرة أمل، والدم وقودًا للفجر الجديد.

كل سطر فيه يضيء طريقًا للأمة، ويدعوها إلى التمسك بالحق مهما اشتد الليل.

إنها رسالة بأن الحرية لا تُنتزع إلا بالإصرار، وأن الشهادة ليست نهاية بل ولادة أخرى للوطن.

ترى فيه الزيتون رمزًا للثبات، والقمح رمزًا للعطاء، والجبال رمزًا للشموخ الذي لا ينحني.

يعانق النص تاريخ فلسطين، من القدس إلى غزة، ومن رفح إلى جنين، في وحدة المصير والدم.

إنه نداء يطرق القلوب قبل الآذان: لا فرار ولا انكسار.

سلامه ليس كما يريده الغاصب، بل سلام الحرية وزوال الاستيطان.

قرار العودة مرفوع الرأس يظل الوعد الذي لا يسقط بالتقادم.

هذا الشعب لا يساوم، بل يعلّم الأجيال كيف يولد النصر من رحم الألم.

يجعل من الشهداء أعراسًا، ومن الجراح ألحانًا، ومن المعاناة طريقًا إلى النهار.

إنه إصرار مكتوب بالدم، لا تهزه قسوة الطغيان.

فلسطين في النص ليست جغرافيا فقط، بل هي وجدان الأمة وروحها الباقية.

الأرض تحفظ أسماء أصحابها، والمفاتيح تنتظر لحظة العودة.

النصر يزهر حين تتجذر التضحيات في الصدور وتبقى الأرواح معلقة بالحرية.

الخلود يصبح عنوان شعب لا يعرف الهزيمة ولا يرضى الانكسار.

كل كلمة هنا تصوغ ملحمة بقاء تتحدى الزمان والمكان.

إنها ملحمة شعب تعلّم العالم معنى الثبات والإباء.

هذا النص يكتب للأجيال سيرة من نور ودموع وصمود.

ويبقى الصوت الفلسطيني عاليًا، ثابتًا، مرفوع الرأس، لا ينكسر.

تحليل وقراءة السفيرة د أمل عبده

@ السفيرة الدكتورة أمل عبده

شاركها.