محفظة السلع الاستراتيجية والخروج من عنق الزجاجة
بقلم: عاطف عبد الله
منذ انطلاقتها في منتصف 2020، ظلت «محفظة السلع الاستراتيجية» محور جدلٍ بين من يصفونها بأنها أداة في يد “ديناصورات الإنقاذ” والطفيليين، وبين من يرون فيها مبادرة إصلاحية لإنقاذ الاقتصاد السوداني من انهياره. غير أن الوقائع الموثقة تكشف أن المحفظة كانت مشروعاً شفافاً وذا جدوى، استهدف استقرار سعر الصرف وضمان تدفق السلع الحيوية، لا خدمة شبكات الفساد.
عبد اللطيف عثمان: العقل المدبر وراء نجاح المحفظة
يُعدّ السيد عبد اللطيف عثمان محمد صالح أحد أبرز العقول المالية السودانية المعاصرة. جمع بين الخبرة العالمية والخبرة الوطنية، إذ شغل مناصب رفيعة في إدارة الاستثمارات، منها:
رئيس الاستثمارات في الهيئة العامة للتقاعد والتأمينات الاجتماعية بقطر،
ومدير رفيع في إدارة الخزانة والاستثمار بـ بنك الدوحة على مدى تسع سنوات.
ورغم ما كانت تتيحه له تلك المناصب من أجر مجزٍ، ظل زاهداً مترفعاً عن جمع الثروة الشخصية؛ فلا منزل باسمه ولا حساب مصرفي متخم. وحين أسندت إليه رئاسة اللجنة التنفيذية لمحفظة السلع الاستراتيجية، رفض أن يتقاضى جنيهاً واحداً نظير عمله، مؤكداً طبيعتها غير الربحية وحرصه على أن تكون أداة إصلاح حقيقية.
لقد جمع عبد اللطيف عثمان بين النزاهة والانضباط والمعرفة العميقة بالأسواق المالية، فأدار المحفظة بشفافية مكنتها، خلال فترة وجيزة، من تحقيق ما عجزت عنه حكومات سابقة طوال سنوات: تثبيت سعر الصرف، وضمان انسياب الوقود والدواء، وحماية الاقتصاد من فوضى السوق الموازي.
النشأة والأهداف
تشكلت المحفظة بقرار من اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية في أبريل 2020، استجابةً لأزمات خانقة: ندرة النقد الأجنبي، ارتفاع العجز التجاري، وتدهور الجنيه. صُممت الآلية كمشروع تمويلي متوازن (Balanced Trading Hedge Fund) يجمع بين حصائل الصادر خصوصاً الذهب وخطوط التمويل الخارجي، لتوفير محروقات ودواء وقمح ومدخلات إنتاج، بعيداً عن السوق الموازي
بلغ رأس مالها الأولي نحو 14.1 مليار جنيه (حوالي 90 مليون دولار)، ساهمت فيه بنوك تجارية وشركات تأمين وشركات تعدين، على رأسها بنك الخرطوم وشركة الجنيد، بينما امتنعت الحكومة عن المشاركة المباشرة حتى لا تتعارض سياساتها التحريرية مع طابع المحفظة شبه التجاري.
آلية العمل
* تشتري المحفظة الذهب من المعدّنين وشركات التعدين بسعر عادل، وتودع حصائله في حساب ضمان (Escrow) ببنك السودان.
* توظّف الحصائل مضافاً إليها تسهيلات مصرفية لفتح اعتمادات لاستيراد السلع الاستراتيجية، وفق عطاءات شفافة تشرف عليها وزارة الطاقة أو مجلس الأدوية.
* الأرباح المصرفية تعود للبنوك المشاركة، بينما لا تتقاضى المحفظة نفسها أرباحاً تشغيلية، التزاماً بطابعها غير الربحي. “علماً بأن المحفظة كانت تتربح فقط من صادرات الذهب، وليس من السلع المستوردة.
هذا التصميم أتاح تدوير رأس المال عدة مرات في السنة، ليغطي استيراد سلع بأكثر من 1.8 مليارات دولار.
أبرز الإنجازات (2020 أكتوبر 2021)
* تمويل أكثر من 120 باخرة محروقات بقيمة تفوق 600 مليون دولار، ما أنهى صفوف البنزين وخفّض تكلفة الاستيراد بنسبة قاربت 7% عن الأسعار العالمية.
* تغطية نحو 40% من احتياجات البلاد من الدواء (30 مليون دولار شهرياً)، بعد ضرب مصالح “مافيا الدواء” وإعادة تنظيم سوق الاستيراد.
* المساهمة في استقرار الجنيه عند حدود 430 للدولار حتى قبيل انقلاب 25 أكتوبر 2021، عبر تجفيف السوق الأسود والاعتماد على حصائل الذهب.
* من خلال الشفافية والحوكمة السليمة تم خفض العجز التجاري بنسبة 40% وراكمت الاحتياطي النقدي بما يفوق 1,8 مليار دولار أمريكي، الامر الذي جعل البنك المركزي يطرح اسبوعياً مزادا للنقد الأجنبي لاستيراد السلع الغذائية مثل السكر والبقوليات ..الخ.
* توفير أكثر من 35 مليون دولار سنوياً من خلال الشفافية في أجراء المناقصات العالمية لاستيراد المحروقات والأدوية وبقية السلع الاستراتيجية.
رأس مال المحفظة والمساهمون (2020)
الفئة عدد الجهات إجمالي المساهمة (جنيه سوداني) النسبة من رأس المال
البنوك التجارية (26 بنكًا، أبرزها بنك الخرطوم، البركة، فيصل الإسلامي) 26 7,249,967,863 51%
شركات التأمين (شيكان، البركة، التعاونية وغيرها) 10 286,926,155 2%
الشركات (التعدين ومعالجة مخلفات الذهب، أبرزها شركة الجنيد) 17 6,582,672,759 47%
الإجمالي 14,119,566,778 100%
الأرقام مأخوذة من سجلات محفظة السلع الاستراتيجية التي نشرها المرصد السوداني الموحد للشفافية والسياسات أغسطس 2024
معوقات وتحديات
واجهت المحفظة منذ البداية مقاومة من شبكات تهريب الذهب وتجار العملة، فضلاً عن تضارب مصالح بعض كبار مستوردي الوقود والأدوية. كما أعاقت الحوكمة الضعيفة في الجهاز المصرفي وغياب الإرادة السياسية بعد الانقلاب استدامة التجربة، فتوقف ضخ البترول المدعوم وانفجرت أزمة الدواء مجدداً.
دلالة التجربة
ما أنجزته المحفظة خلال أقل من عامين يبرهن أن السودان كان قادراً، عبر شراكة ذكية بين الدولة والقطاع الخاص، على تجاوز عنق الزجاجة الاقتصادي. لكنها ظلت هدفاً لقوى الثورة المضادة وبعض العسكريين الذين خشوا فقدان نفوذهم إذا استتب الاستقرار المالي.
أسباب فشل محاولات إعادة تشغيل المحفظة بعد الانقلاب
بعد حل المحفظة الأصلية في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر 2021، قامت وزارة المالية بثلاث محاولات لإعادة تشغيلها لمعالجة اختلالات الاقتصاد السوداني، لكن جميعها باءت بالفشل. وتكمن أبرز الأسباب في:
* تغوّل المصالح السياسية والطفيلية: هيمنة شبكات النفوذ على القرار الاقتصادي أفرغت الفكرة من مضمونها وأفقدتها استقلالها وشفافيتها.
* غياب آليات تمويل مبتكرة: المحاولات اللاحقة لم تستند إلى التصميم المالي المرن الذي ميز التجربة الأولى، بل ظلت رهينة الاقتراض التقليدي والتسويات الإدارية.
* افتقارها إلى إدارة مهنية مستقلة: لم تحظَ أي من التجارب الجديدة بقيادة فنية تضاهي ما وفرته إدارة عبد اللطيف عثمان من كفاءة ونزاهة وخبرة مصرفية عالية.
هذه العوامل مجتمعة جعلت إعادة التجربة تفقد جوهرها كأداة إصلاحية، وحوّلتها إلى مشروع بلا فعالية، على النقيض من المحفظة الأصلية التي قامت على الشفافية والشراكة المتوازنة بين الدولة والقطاع الخاص.
خلاصة
لم تكن محفظة السلع الاستراتيجية أداة ربحية بل مبادرة إصلاحية مؤسَّسة على الشفافية والحوكمة. نجاحها خلال فترة 2020 2021، رغم المعوقات المفتعلة من شبكات الفساد، والظرف المعقد الذي نشأت فيه، يثبت أن السودان كان قادراً على ابتكار أدوات تمويل ذكية لتجاوز أزماته إذا توافرت الإرادة السياسية والإدارة المهنية. لقد قدّمت المحفظة، بقيادة عبد اللطيف عثمان، نموذجاً عملياً يمكن الاستفادة من دروسه مستقبلاً، بعيداً عن التجارب اللاحقة التي خرجت عن روح التأسيس الأول. إن استعادة روح تلك التجربة قد تكون شرطاً ضرورياً لعبور السودان أزماته الراهنة.
المصدر: صحيفة التغيير