خالد فضل


خالد فضل

اليوم 15 سبتمبر 2025, يكون جيل من الشيوخ /ات السودانيين/ات قد أكمل عامه الستين على ظهر البسيطة، صاحبكم من ضمنه؛ إن طال الأجل، وسيصبح غدا في أول أيام الحادي والستين. ستة عقود ليست بالزمن القصير في حياة الأفراد والشعوب والبلدان، فقد نجحت ألمانيا في تفكيك ثمانية مفاعلات نووية للأغراض السلمية في غضون 22 سنة فقط انتهت في 2022، استغرق تفكيك أولها عشر سنوات فيما سبعة الأخريات منها لم يستغرق سوى 12 عاما. إثيوبيا تنجز سد النهضة العظيم في 14 سنة ليغيّر معادلات استغلال هذا المورد الحاسم للحياة، جنوب إفريقيا أنجزت الانتقال العظيم بعد عقود من التمييز العنصري البغيض، رواندا تعافت خلال بضع سنوات من آثام الانقسام العرقي الوضيع ومذابح الهوية المفجعة، هنا نقاط تأمل مهمة تتعلق بالخبرة وتعميقها وتطويرها، فهل تراكمت لدى جيلي خبرات؟ هل تعمقت تجارب، فسارعت في الإنجاز؟ أم ترانا نتقهقر عاما إثر عام، ففي الثلاثينات والأربعينات من أعمارنا طغت علينا هموم رعاية الأبناء وتعليمهم وتوفير مقومات الحياة لهم من مسكن ومأكل، ثم عدنا بعد عقدين أو ثلاثة من دوران الزمان نطمع لهم في ملجأ. أو نتوق لهم في وطن بديل نرجو لهم حفظ الأرواح فقط بعد أن صارت عرضة للإزهاق بدون أسباب.

هل ورث جيلنا عن جيل الآباء القيم النبيلة التي سادت، أم ورثنا منهم النقائص، وعمقناها عوضا عن الانتباه، ورثنا حدودا مقدارها مليون ميل مربع وتزيد، تتنوع إلى ستة مناخات على الأقل، هل رأينا فيها منحة أم تحولت إلى محن متتالية، تضاريس تتدرج من الجبل فالسفح والوادي والسهل المنبسط والتلال والأنهار والروافد والخيران والأودية وماء الجوف العميق والمطر، عشنا في رخائها أم صارت عوامل طبيعة تساعد على القتال والإفناء، ثم كنا نرمح في رحاب التعددية بكل عناصرها، أعراق وسحنات ولغات ولهجات وأنماط ثقافية وعادات ومعتقدات، هلا اتسعت آفاقنا، وتنوعت ثقافاتنا بحيث صرنا أثرياء أم تقزّمت الطموحات إلى كانتونات رابطة الدم والقبيلة، وصارت التعددية دغمسة غير مرغوبة، والاختلاف سبة تستوجب الاستئصال. عند صرخات ميلادنا في منتصف الستينات، كان ثم هيكل للحكم، ومؤسسات تدير الشأن العام، جيش نظامي لم تغمره المليشيات حتى ذاب، قادته يشوبهم الوقار، فانتهينا إلى من يمد إصبعه مثل بلطجية الأزقة، بوليس وقاض، وزير ومدير بالترقيات المعهودة وخدمة مدنية منضبطة وقطارات وبواخر على النيل والبحر المالح وماركتين ثلاثة من اللواري والشاحنات وبضع طائرات ومشروع الجزيرة وحده مصدر العملات. إلى ماذا صرنا عندما بلغنا صفة (شيوخ/ات)؛ نحكي لخلفنا عن الماضي (عدّ وفات) ونذرف الدمع على الرفات، نؤشر دون دليل: هنا كانت السكة الحديد، وذاك مكتب البريد، وفي الأفق تلوح طائرة، ومرمى النظر محطة القطر. هنا كان مكتب الغيط، وذاك أثر الترعة وأب عشرين في المكان الذي يشغله الآن مليشيا التغراي.

ونسترجع الذكريات، كان لنا مشروع وطن، حالنا اليوم يحكي عن رجل بالغ فوق العشرين أو الثلاثين؛ يدعي أمام سلطات الهجرة في بريطانيا بأنه طفل غرير ليحظى بحق الأطفال من غذاء وحليب وتعليم. تنتصر له المحكمة، وتبطل دفوعات إدارة الهجرة؛ وهي سلطة تنفيذية، تلومها بضعف الحيثيات بالاستناد إلى المظهر من تجاعيد وانحسار شعر الرأس، فربما كان ذلك بسبب ما عاشه الرجل الطفل في بلد يشيب من هول ما فيها الولدان، ذاك نظام الفصل بين السلطات. نشتهيه الآن فنجد قائد الجيش، رئيس البلد ويصدر الأحكام، ثم يعين القضاة ورئيس النيابة العامة، يقوم بالتشريع ليبني وطنا فوق الركام، ويسيطر على الإعلام دون تفويض أو انتخاب. ونعيش حتى نبلغ الستين إن كان لنا أيام!!

ماذا تعلمنا؟ وما خبرنا، هل جهلنا أم أدركنا من كر السنوات فستة العقود. نجلس القرفصاء لواعظٍ لديح من على المنابر في المساجد يسب الآخرين موافقا السلطان، نشرخ حلاقيمنا وبها بحة الشيخوخة هتافا مع الصبية والأطفال، شعب واحد جيش واحد، ننسى زملاء لنا وأصدقاء لم يعودوا ضمن الشعب الواحد، وبعض ينتظر بفعل قانون الوجوه الغريبة، وجريمة العرق الذي ليس لأحد فيه اختيار والجهة التي ليس منها مناص. ستينيون كثر فيهم من تسبق اسمه ألقاب، دكتوراة وأستاذية، ومفكر مثقف، كأن لم يعيشوا من قبل تجربة رغم عيوبها، إلا أنها لم تخلُ من بعض إيجابيات، أقلها المؤسسات قبل أن تتحول بكلياتها إلى منظمات رهن شارة التنظيم اللئيم. ويغالط الستينيون وما فوقهم وبعدهم بقليل.

أتمنى لجيلي من الشيوخ في هذا اليوم سلامة البصيرة، أمّا وظائف أعضاء الأجساد فهي إلى اضمحلال؛ ذاك ناموس الحياة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.