مهدي رابح
في القرن الثالث عشر الميلادي تعرض جلال الدين الرومي، الشاعر الفارسي واحد اقطاب التصوّف، لأمثولة الفيل والمكفوفين في قصيدته المثنوية “الفيل في الظلام” حيث يقول فيما معناه:
العين مثل كف اليد, ليس في مقدورها ان تدرك كل أجزاءه.
ثم يسترسل:
عين البحر شيء وزبده شيء آخر. دع الزبد يذهب، وأمعن النظر في البحر. فقاعات الزبد تطفو، آناء الليل وأطراف النهار: عجباً! فأنت تمسك بالزبد وليس البحر…
وينهي قصيدته بما معناه “لو أن كل شخص حمل شمعة فإن الفروق سوف تزول.”
وجوهر الامثولة وما سعي اليه الشاعر أيضا هو الإشارة الي تلك المعضلة الأبدية الكامنة في التناقض بين اعتقاد بعض البشر امتلاك الحقيقة ومحدودية قدرة الانسان على ذلك.
أشرت في المقال السابق الي زاوية نظر العوامل الذاتية المباشرة او كما اسميتها مؤخرة الفيل والتي تختزل المشكل السوداني في خبث نوايا وافعال افراد او جماعات محددة, وقد تجاوزنا ,كسبا لوقت القارئ الثمين, السردية التي تلقي بمسؤولية الحرب على المدنيين الديموقراطيين المنادين بوقف الحرب او “القحاطة” كما درج تسميتهم في التعبير الشعبوي لضعفها البائن وارتباطها المباشر بحملات التضليل الإعلامي والدعاية الحربية. وركزت بدلا عن ذلك على السرديات الرئيسية التي تلقي اللوم وبصورة استثنائية اما على الاسلامويين وبرهان والجيش ومشايعيهم من جهة أوحميتي وقوات الدعم السريع ومشايعيهم من الأخرى. ذلك ان المنظورين المذكورين في تقديري يطغيان على المشهد السياسي الان وبالتالي يشكلان ملامح الحلول غير العملية المتبناة, والتي يمكن ايجازها في ثلاث, جلها لا يخرج عن مبدأ الحل العسكري في نهاية الامر. أي القضاء كليا او جزئيا على تحالف بورتسودان او القضاء على تحالف نيالا او, وفي حال كثير من المدنيين الذين ما زالوا يؤمنون بمشروع التحول المدني الديموقراطي لكنهم انساقوا دعما لهذا المعسكر او ذاك, تأجيل مشروع التحول مؤقتا لحين قضاء طرف على الاخر بقوة السلاح قبل استئنافهم السعي لتحقيقه، والرهان على قدرتهم إقناع جنرالات الجيش أو الدعم السريع الامتثال له.
لكن وبغض النظر عن الاختلافات الثانوية بين تلك الرؤي في مجملها, فإنه من الممكن وضعها جميعا في خانة منظور العوامل الذاتية المباشرة, لأنها تكتفي في تفسير الازمة على الحكم علي افراد او جماعات بناء على ايديولوجياتهم او أفكارهم او قراراتهم او افعالهما او انتماءاتهم الاثنية والقبلية.
بالمقابل نري انه وفي سبيل الوصول الي منظور أكثر اتساعا يكامل وجهة النظر الذاتية سابقة الذكر أي لنحمل شمعة واحدة صغيرة علها تزيل بعض الفروق كما قال بن الرومي علينا ان نتطرق الي زوايا نظر اخري ربما تفسر أسباب وجود هؤلاء الافراد والمجموعات في الأصل والدوافع الكامنة خلف افعالهم. فجلهم نتاج للواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي للسودان. وبدلا عن التساؤل كما فعل الاديب الراحل الطيب صالح ” من اين اتي هؤلاء؟” نسأل أنفسنا كيف ولماذا اتي هؤلاء؟.
يمكن اجمال ما تبقي من زوايا النظر في فئتين, منظور العوامل المباشرة, كالمصالح الاقتصادية والطموحات والمخاوف الشخصية لأطراف الحرب وعلاقة ذلك بسعيهم للسلطة او الاحتفاظ بها والواقع الجيوسياسي وتأثير بعض القوي الإقليمية والدولية علي اتجاه الأحداث. ومنظور العوامل التأسيسية غير المباشرة, التي تتمثل في ازمة الهوية وتشوه النظم السياسية والبني الاقتصادية والمؤسسية للسودان منذ ما قبل استقلاله.
عودا على بدء وقبل التوغل في تلك العوامل وتحليلها ثم الاستناد على ذلك لاحقا للمساهمة بوجهة نظر عملية للخروج من الأزمة افضّل أن أصف الوضع الحالي بصورته الأكثر واقعية في نقاط موجزة ودون ترتيب, فيما يشبه لمحة أولية ل “الفيل في الظلام”:
# تفصلنا بضعة أسابيع لنبلغ اليوم رقم 1000 لهذه الحرب ومن الواجب التذكير مرارا وتكرارا حتي وان بدي ذلك مملا للبعض ان العدد المقدر لضحايا العنف في السودان منذ استقلاله وحتي صبيحة 15 ابريل 2023م يقدر ب 2 مليون مواطن/ة وانه لم يقدم احد للمحاسبة او العدالة وتم دفن بشاعة الحقائق بذريعة اتفاقيات سلام لم تحقق سلاما.
# ابلغ وصف للحرب وأطرافها صدر في تقرير مجلة الايكونومست The Economist ذائعة الصيت، بتاريخ 29 أغسطس 2024م :
” المتحاربون الرئيسيون هم الجيش التقليدي، والقوات المسلحة السودانية (SAF)، وميليشيا تسمى قوات الدعم السريع (RSF). وليس لأي منهما هدف أيديولوجي أو هوية عرقية متجانسة. وكلاهما تحت قيادة أمراء حرب عديمي الضمير يتنافسون للسيطرة على الدولة وغنائمها.”
” المذبحة سوف تتفاقم. يُظهر تحليلنا لبيانات الأقمار الصناعية والصور الحرارية بلدًا مغطى بالحرائق. تم حرق المزارع والمحاصيل. يضطر الناس إلى أكل العشب وأوراق الشجر. وإذا استمرت ندرة الغذاء، فقد يموت ما بين ستة ملايين وعشرة ملايين بسبب الجوع بحلول عام 2027، وفقا لمؤسسة بحثية هولندية تعمل على وضع نماذج للأزمة. ”
# استنادا علي تاريخ السودان الحديث والذي لم يحسم فيه أي نزاع عسكري بالقوة من قبل ونظرا لحجم التمويل والدعم العسكري والسياسي الذي تتلقاه الالة الحربية لطرفي النزاع فان هذه الحرب لن تتوقف بحسم عسكري أيضا ومن المرجح ان تستمر لمدي طويل جدا.
# الحرب الحالية تدور في عتمة صحفية قاتمة والمعلومات التي ظلت تضخها الآلات الإعلامية لأطراف الحرب لا يعتد بها كونها تصدر في سياق الحرب المعنوية التي تمثل أحد ميادين القتال الرئيسة.
# اخر إحصاء تقريبي بسقوط ما يقدر بمئة وخمسين ألف قتيل منذ صبيحة اندلاع الحرب يرجع تاريخه لعام ونصف سابق وللغرابة يتم إعادة تدويره دون مراجعة من قبل الناشطين السياسيين والمنظمات المعنية في حين يسقط المئات كل يوم جراء العنف المباشر او الجوع او انتشار الاوبئة وغياب الخدمات الصحية.
# في تقرير صدر من معهد كلينقاندايل Clingendael Institute ونشر في مايو 2024م فإنه توقع أن تقضي المجاعة وحتى نهاية ذلك العام على حوالي 2 مليون مواطن/ة سوداني/ة.
# مئة شخص يموتون يوميا من الجوع، حسب تصريح بعثة المملكة المتحدة في الأمم المتحدة والمستند على تقرير لفريق من خمسة خبراء في مجال الأمن الغذائي، اعتمادا على دراسة البيانات والمعطيات الواردة مؤخرا من السودان…أغسطس 2024م
# رغم سيطرة طرفي الحرب على اجزاء واسعة من البلاد الا ان الوضع الأمني غير مستقر حتى داخل المراكز المدينية واكبرها الخرطوم. أي ان الجميع داخل السودان معرضين لخطر العنف جراء القتال.
# يستمر تقويض قدرات القوات المسلحة الرسمية وسيطرة الإسلاميين علي مفاصل ما تبقي من الدولة في بورتسودان وتناسل المليشيات المسلحة وبروز مزيد من امراء الحرب.
# طرفي الحرب ارتكبا جرائم لا حصر لها في حق المدنيين قد يرقي كثير منها لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية, اخطرها استخدام سلاح التجويع والأسلحة الكيمائية.
# تم تدمير البني التحتية والممتلكات الخاصة واعادة بناءها يتطلب عقودا وموارد من الصعب الحصول عليها..
# حرَمَت الحرب في السودان ثلاثة أرباع الأطفال في عمر التعليم من الذهاب إلى المدارس، بحسب تقرير لمنظمة “أنقذوا الأطفال”.
11سبتمبر 2025م.
# ما يزيد عن ثلاثة عشر مليون مشرد بين اللجوء والنزوح وثلاثين مليون معرضين لخطر المجاعة.
# عسكرة الفضاء المدني وتقويض القدرة على استخدام الأدوات السياسية السلمية داخل السودان والقمع البالغ لاي حراك احتجاجي وضعف وتشظي الصف المدني المنادي بوقف الحرب.
# تدخل بعض الدول المباشر دعما لأطراف الحرب ومؤشرات مؤكدة لتنازل السودان عن سيادته بالمقابل.
# محنة السودان تقبع في مؤخرة اهتمامات المجتمع الدولي رغم انها تمثل المأساة الإنسانية الأكبر في القرن الواحد والعشرين.
# يري بعض المتشائمين كبروفيسر اليكس دي وال انه من غير المرجح ان يتمكن السودان من استعادة وضعه المؤسسي كدولة وبالتالي تشظيه او انهياره في عملية شبيهة لعملية تكوينه في بدايات القرن التاسع عشر، اي نتاج الجهود المبذولة للسيطرة عليه من قبل اتحاد/شراكة بين سودانيين وقوي خارجية ومغامرين لنهب موارده الطبيعية واستغلال موارده البشرية بغرض الأرتزاق .
يتبع …
المصدر: صحيفة التغيير