هل البرهان كاهن؟

أحمد عثمان جبريل

“الدهاء ليس في أن تخدع الآخرين، بل في أن تجعلهم يظنون أنهم هم من اخترعوا الخديعة.”
‐نيكولو مكيافيلي

في السياسة، كما في الأساطير، يُطلق وصف “الكاهن” على من يكتنز المكر، ويجيد لعب الأدوار خلف الحُجب، ويصوغ الطلاسم ليُضلل من حوله، ثم يُخرج الأرنب من القبعة في اللحظة المناسبة.
ما أن خرج لقاء البرهان ومبعوث الرئيس الأميركي للسلام في السودان مسعد بولس، في سويسرا للعلن، حتى أرسل لي أحد كبار السياسيين البارزين والذي أمسك عن ذكر اسمه وحزبه والتيار الذي يمثله داخل حزبه، لقد شعرت حينها وهو يسألني ذلك السؤال، كأنه يتأمل حينها مشهد الخرطوم المرتبك بين ركام الحرب وغبار المفاوضات، قائلاً في رسالته: “هل الفريق أول عبد الفتاح البرهان كاهن؟” .. لم أُجب على الفور. قلت له: “دعني أراقب ما سيفعله بعد أن إنتهى لقائه مع مبعوث الرئيس الأميركي، مسعد بولس، فالرجل من المؤكد ينتظر من البرهان بيان بالعمل، دعنا ننتظر معه ثم أعود إليك بالإجابة.” أذكر في ردي على رسالته قلت له ربما سيأخذ ذلك وقتا فالرجل إعتاد على (حفر الملعقة) .. ارسل لي موجي ضاحكا وتوادعنا.. وها أنا أجاوب على سؤاله في هذا المقال : بداية اشكر لك ثقتك في رؤيتي للإجابة على سؤالك الموضوعي والكبير .. هل الفريق البرهان كاهن كما يوصفه الكثير من الناس مستنيرين وغير ذلك ؟ لقد مرت أسابيع، على سؤالك وتوقعت ان تطول أكثر ولكن يبدو هناك من نفد صبره، فقد توالت الأيام ومن خلالها حاول البرهان إرسال الإشارات، بالإحلال والإبدال داخل قيادة الجيش، وتعيينات في “حكومة مدنية” على الورق، ومناورات سياسية تُغلفها لغة براغماتية توحي بالحكمة، بينما الواقع ينهار.
في الظاهر، بدا وكأن البرهان يحاول إعادة ضبط البوصلة.. أما في العمق، فقد كانت تلك خطوات مكشوفة تهدف لكسب الوقت وخلط الأوراق، لا لحل الأزمة الوطنية.

لكن هذه المراوغة لم تكن خفية على الجميع.
فمسعد بولس، مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في السودان، والذي مثّل الإدارة الأميركية إلى جانب وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو في”الرباعية الدولية” (أمريكا، بريطانيا، السعودية، الإمارات)، انتظر الخطوات العملية وما سيسفر عنها ما أتفق عليه في لقاء جنيف الأخير مع البرهان وانتظروا وانتظروا ولم يكونوا مثلنا في الصبر تململوا ويبدوا ان كل التقارير خرجوا منها بانطباعٍ حاسم: هذا الرجل لا يريد الحل. بل يعمّق الأزمة ويبدّد الوقت، ويُفرّط في كل فرصة تُمنَح له.

واشنطن، التي طالما حاولت أن تمنح البرهان هامشا للحركة ومجالًا لالتقاط اللحظة، أدركت متأخرة أن لا جدوى من الرهان عليه، إذ لم يستثمر فرص الدعم، ولا بادر بخطوات جادة تعيد بناء الثقة، ولا انفكّ عن فتح الأبواب الخلفية للحركة الإسلامية وإعادة تدوير رجال النظام القديم داخل مفاصل الدولة والجيش، بالصفوف الخلفية

ما بعد لقاء بولس شكّل نقطة تحوّل فارقة في الموقف الأميركي، فقد بدأت الولايات المتحدة، عمليًا، باتخاذ خطوات على الأرض وهي: إعادة تموضع في السياسة الإقليمية، وفتح قنوات جديدة مع قوى مدنية وعسكرية خارج مظلة البرهان، وتنسيق أوسع مع أطراف فاعلة لا ترى في المؤسسة العسكرية ممثلة وحيدة للشرعية..
بل هناك مؤشرات على أن الرباعية الدولية لم تعد ترى في البرهان طرفًا قادرًا على توقيع تسوية نهائية أو تنفيذ اتفاق سياسي.

ولذلك يبرز السؤال الجوهري هنا : فهل البرهان كاهن؟ واستطيع بكل صدق أقول: لا، بل هو رجل يستخدم أدوات الكاهن بيد المرتاب، لا المؤمن، إنه يريد أن يبدو كمن يُمسك بخيوط اللعبة، بينما الخيوط قد تكون في يد غيره،
وإن كانت له براعة، فهي في إطالة عمر المأزق، لا في إنتاج الخروج منه.

الكاهن الحقيقي، في الميثولوجيا كما في السياسة، يُدهشك بما لا تتوقع، ويمنحك الوهم على أنه يقين، أما البرهان، فقد أصبحت أوراقه على الطاولة، و مواقفه تُقرأ بسهولة، وتحالفاته تُفهم من قبل أن يُعلنها، ما عاد يصلح لوصف “الكاهن” إلا بوصف ساخر.

قد يكون من الإنصاف القول إن الرجل يتحرك بين ضغوط لا تحتمل، وإن المناورات قد تكون ضرورة وليست خيارًا؛ لكن حتى حين نمنحه هذا العذر، لا يمكننا أن نتجاهل أن طريقته في إدارة البلاد أفرزت مزيدًا من التشظي، وأعادت تدوير نخبة فشلت مرارًا، وتسببت في انفضاض كثيرين من حول مشروع “جيش واحد، وطن واحد”.

لكنه في الوقت نفسه، يجب أن يدرك أن “الكاهن” الذي يملك مفاتيح المستقبل لا يملك دائمًا القدرة على تحديد مصير شعب بأسره.. فالحكمة ليست في الرؤية المستقبلية فقط، بل في كيفية التفاعل مع الحاضر، وكيفية اتخاذ القرارات التي تضع الوطن على المسار الصحيح.

لذلك، لا، البرهان ليس كاهنًا.. بل هو مجرّد جنرال آخر في زمنٍ لم يعد يحتمل الجنرالات.
إنا لله ياخ.. الله غالب.
مع التحية والتقدير.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.