عبدالماجد سعيد عرمان
في حياة البشر لحظات تكشف أنّ القوة ليست دائمًا في المال أو السلاح، ولا في مراكز النفوذ الرسمية وحدها. هناك ثروات خفية، تسكن في الاعتراف، في نظرة الآخرين، وفي الشرعية التي يمنحها المجتمع لبعض الأسماء والمقامات. في هذا السياق يقدّم عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (19302002) مفهومه العميق: رأس المال الرمزي.
بورديو، الذي يُعَدّ من أبرز مفكري القرن العشرين، لم يقدّم علم اجتماعٍ جافًا، بل مشروعًا متكاملًا لفهم كيف تُعاد إنتاج التفاوتات عبر قوى صامتة لا يراها الناس. ففي التمييز (1979) حلّل الذوق الثقافي بوصفه أداةً للفرز الطبقي، وفي الهيمنة الذكورية (1998) كشف عن آليات التسلط الجندري. لكن كتابه أشكال الرأسمال (1986) ظلّ النص الذي أعاد رسم خريطة السلطة: لم يعد الرأسمال محصورًا في المال أو الموارد، بل أصبح منظومة تشمل الرأسمال الثقافي والاجتماعي والرمزي، حيث الأخير هو الذي يمنح الشرعية والهالة، ويحوّل المكانة إلى سلطة.
بهذا التوسيع، لم يعد المجتمع ترتيبًا اقتصاديًاسياسيًا فحسب، بل شبكة معقدة من الرموز؛ اقتصاد خفي للمعنى، يُحوِّل الاعتراف الجمعي إلى قوة حقيقية. ففي حياة البشر شواهد كثيرة على أن المال والسلاح لا يختزلان القوة. فالجامعة تمنح شهادةً ليست وثيقة شكلية، بل رمزًا يُترجم إلى نفوذ ووجاهة. التعليم نفسه يصبح وسيلة للارتقاء الطبقي، لكنه في جوهره أيضًا رأسمال رمزي: فالشهادة الجامعية أو الماجستير أو الدكتوراه لا تفتح فقط أبواب العمل، بل ترفع مكانة حاملها في نظر المجتمع، وتحوّله إلى شخص “معتبر” تُسمَع كلمته ويُستشار رأيه.
اللقب الشرفي، الوسام، السمعة الحسنة… كلها تتحوّل إلى رأسمال رمزي يجعل صاحبه يمارس سلطة غير مرئية لكنها فاعلة. المفارقة أن هذه القوة لا تأتي من جوهر الأشياء نفسها، بل من الإيمان الجماعي بقيمتها.
يبيّن بورديو أنّ رأس المال الرمزي يتشابك مع بقية أشكال رأس المال: الاقتصادي الذي يمنح الوسائل، الثقافي الذي يمنح المعارف، والاجتماعي الذي يفتح الشبكات. لكن الرمزي هو الذي يضفي الشرعية على هذه الأشكال، ويحوّلها إلى ما يشبه “قدرًا طبيعيًا”. حينها يصبح التفوق مقبولًا كأنه بديهي، وتُعاد إنتاج التفاوتات في صمت، بلا حاجة إلى قسرٍ مباشر.
يمكن للمرء أن يرى أثر رأس المال الرمزي في كل زاوية من حياتنا. الرياضي الذي يتحول إلى أسطورة وطنية، العالِم الذي يصبح صوتًا مسموعًا في السياسة، الشيخ الذي يكتسب كاريزما روحية؛ جميعهم يمارسون سلطة تتجاوز ما يملكونه من موارد مادية. القوة هنا ليست في الحجم، بل في الاعتراف، وفي الهالة التي تحيط بالاسم أو بالمقام.
إنّ رأس المال الرمزي هو الاقتصاد الخفي للمعنى، العملة التي لا تُقاس بالأرقام، بل بعمق ما يستقر في وجدان الجماعة. خطورته أنّه يُمارس دون أن يُرى، وجاذبيته أنّه يحكم بالإيمان لا بالقسر. هو القانون الصامت الذي يعيد تشكيل الوعي والتراتبية، ويحوّل المكانة إلى سلطة، والاعتراف إلى قدر، ويظهر لنا أن ما نراه “طبيعيًا” في توزيع السلطة ليس سوى انعكاس لرصيد من المعاني والمكانة جمعها المجتمع وأقرّها
في النهاية، يكشف بورديو من خلال هذا المفهوم أن المجتمع ليس محض ترتيب للمال والسلطة، بل شبكة معقدة من الرموز والمعاني، حيث تتحوّل الإشارات الصغيرة إلى تأثيرات كبيرة، والمكانة إلى قوة، والاعتراف إلى سُلطة غير مرئية لكنها حقيقية، تفرض نفسها على حياتنا اليومية بصمت وبدون ضجيج.
ومن ثمّ، فإنّ مفهوم رأس المال الرمزي عند بورديو لا يقف عند حدود علم الاجتماع، بل ينفتح على أفق فلسفي أوسع: أفق السؤال عن طبيعة الحقيقة ذاتها. ما الذي يجعل مكانةً ما “شرعية” وأخرى “بلا قيمة”؟ هل هو الواقع الموضوعي أم الاعتراف الجمعي؟ في هذا يلتقي مع فوكو في حديثه عن الحقيقة بوصفها نظامًا من الخطابات تُنتج السلطة كما تُنتَج بها، ومع هابرماس في جدليته عن الفعل التواصلي حيث الاعتراف والهيبة يتحوّلان إلى شرط للمعنى.
إنّ رأس المال الرمزي يذكّرنا بأن الإنسان لا يعيش في عالم الأشياء فقط، بل في عالم الاعتبارات، وأن المجتمع ليس بنية ثابتة، بل نسيج من الإيمان المشترك. بهذا يصبح السؤال الأخلاقي والسياسي ملحًّا: كيف يمكن كسر احتكار الرموز الذي يُعيد إنتاج التفاوت؟ وكيف يمكن تحويل الاعتراف من أداة للهيمنة إلى أفق للمساواة والعدالة؟
وفي الأفق الأخير، يتبدّى رأس المال الرمزي لا كمعادلةٍ جامدة، بل كسرٍّ من أسرار الوجود: سرّ الاعتراف الذي يمنحه البشر لبعضهم، فيحوّل الأسماء إلى أنجم، والمقامات إلى أقدار. هو الحبر الخفي الذي يكتب التاريخ في عيون الجماعة، والصوت الذي لا يُسمع لكنّه يُطاع.
إنه ليس مفهومًا سوسيولوجيًا، بل مرآة تعكس هشاشتنا العميقة: نحن لا نحيا بالخبز وحده، بل بالمعنى الذي يُعطى لنا، وبالصورة التي تُرسَم لنا في وعي الآخرين. ومع ذلك، فإنّ في هذا الأسر بذرة حرية: فإذا كان الاعتراف هو العملة التي تصوغ مصائرنا، فإن إعادة صياغته قد تفتح لنا أفقًا آخر، أفقًا تتساوى فيه الكرامات، ويتحوّل فيه الرمز من أداة للهيمنة إلى جسر للإنصاف.
ومن ثمّ يصبح رأس المال الرمزي درسًا روحيًا قبل أن يكون درسًا اجتماعيًا: أن القوة الحقيقية ليست في اليد التي تُمسك، بل في العين التي ترى، والقلب الذي يصدّق، والجماعة التي تمنح المعنى.
المصدر: صحيفة التغيير