القانون الانتخابي العراقي، الذي صيغ تحت ضغط المحاصصة والسيطرة الأجنبية، لم يكن يومًا أداة للعدالة أو حماية إرادة الناخب. بل أصبح سُلّمًا للفساد، يعيد إنتاج نفس النخب المهيمنة ويهمش صوت المواطن، حتى في أكثر الدورات انتخابية مشاركة. هذا المقال يكشف ممارسات التجميع والتلاعب بالأصوات، ويبرز الثغرات القانونية التي تُحوّل الديمقراطية إلى واجهة شكلية، مقترحًا إصلاحات جوهرية لإنقاذ العملية الانتخابية وإنهاء هيمنة الفاسدين. في كل انتخابات يُسوَّق للمواطن العراقي بأن صوته أمانة وحق وأن النظام الانتخابي مصمَّم ليعكس إرادته. لكن التجربة العراقية، منذ 2003 وحتى اليوم، تكشف أنّ النصوص القانونية، مهما بدت متقدمة على الورق، قد تُستغل كأدوات لشرعنة الهيمنة وتمرير المصالح الضيقة وإعادة إنتاج نفس النخب التي ارتبطت بالفساد وضعف الدولة. منذ بداية العملية السياسية تحت الاحتلال الأمريكي، صيغت القوانين الانتخابية بطريقة تُرضي القوى المهيمنة أكثر مما تحمي الناخب، فأُعطيت الأولوية للتوافقات السياسية لا لحقوق المواطنين، وتحوّل القانون من أداة لتحقيق العدالة إلى وسيلة لتكريس المحاصصة وتمكين الفاسدين، ليصبح الناخب أداة غير واعية في عملية تكرار السلطة نفسها. تخيّل قائمة انتخابية لكيان سياسي تضم ثلاثين مرشحًا: تسعة وعشرون منهم ذوو سمعة طيبة، وواحد فقط عليه شبهات فساد. وفق القانون الانتخابي العراقي الحالي، إذا كانت العتبة الانتخابية ألف صوت للحصول على مقعد، وحصل المرشحون النزيهون على معدل 2830 صوتًا لكل منهم، بينما حصد المرشح الفاسد 31 صوتًا مستندًا إلى المال السياسي أو شراء الذمم، فإن آلية احتساب الأصوات تجمع أصوات القائمة لصالح المرشح الأعلى صوتًا. النتيجة: يفوز المرشح الفاسد بالمقعد فيما يصبح زملاؤه النزيهون مجرد سلّم لصعوده. هكذا يتحوّل شعار «انتخب النزيه من القائمة» إلى تضليل مقنّن للناخبين. وهذه ليست فرضية نظرية، بل واقع تكرّر في دورات انتخابية سابقة، حيث تسلّق مرشحون متهمون بالفساد أو الولاء لقوى خارجية على أكتاف أصوات مرشحين مستقلين ونزيهين. القانون الانتخابي العراقي بآخر تعديلاته وفق قانون رقم (4) لسنة 2023 يقوم على القوائم المفتوحة والتمثيل النسبي، ويعتمد طريقة “سانت ليغو المعدّلة” لتوزيع المقاعد، مع تقسيم البلاد إلى دوائر انتخابية على مستوى المحافظات. لم تحقق هذه البنية المطالب الشعبية بالعدالة، بل أفرزت في كثير من الأحيان نتائج تصب في صالح الفاسدين: القوائم المفتوحة تتيح للناخب اختيار مرشحه داخل القائمة، لكن تشتت الأصوات يجعل المرشح المموَّل أو الأكثر تنظيمًا يحصد أعلى الأصوات الفردية حتى لو كانت حصيلة أصوات النزيهين مجتمعة أكبر. طريقة “سانت ليغو المعدّلة” تمنح الأفضلية للقوائم الكبيرة، ما يتيح للأحزاب ذات النفوذ المالي والتنظيمي الاستفادة من أصوات مرشحين نزيهين لدعم مرشحيها المثيرين للجدل. اعتماد المحافظة كوحدة انتخابية بدلاً من دوائر أصغر يسهّل على القوى الكبيرة السيطرة ويقلّص فرص المرشحين المحليين النزيهين الذين لا يملكون موارد ضخمة. نقد قانوني وأخلاقي 1. غياب معايير النزاهة المُلزِمة: القانون لا يستبعد المرشحين ذوي شبهات الفساد إلا إذا صدر حكم قضائي نهائي، وهو أمر شبه مستحيل في ظل نظام قضائي ضعيف وضغوط سياسية. 2. تجميع الأصوات لصالح الأعلى صوتًا: يجعل من الناخبين النزيهين وقودًا لصعود المثيرين للجدل ويشجع على استخدام المال السياسي. 3. هيمنة القوائم الكبيرة: النظام الحالي يمنحها وزنًا يفوق أصواتها الفردية بسبب القسَمات في طريقة سانت ليغو المعدّلة، ما يُعيد إنتاج نفس الأحزاب المهيمنة منذ 2003. 4. تشتت الأصوات داخل القوائم: الناخبون الذين يختارون مرشحين مختلفين من نفس القائمة يسهمون عمليًا في تعزيز فرص المرشح الأكثر تمويلًا، حتى لو لم يقصدوا ذلك. هذا ليس استثناءً عراقيًا. في لبنان، يُعدّ النظام النسبي مع الصوت التفضيلي تجربة مشابهة؛ وفي الأردن، القوائم النسبية المفتوحة أفرزت نتائج متقاربة؛ وحتى في بعض الدول الأوروبية، تُظهر الدراسات أنّ المرشحين ذوي التمويل الأفضل غالبًا ما يحصدون مقاعد رغم أنّ غالبية الناخبين اختاروا آخرين. لكن الفرق في العراق أنّ العملية السياسية بُنيت أصلًا في ظل الاحتلال، ما جعل القانون الانتخابي يُصاغ تحت ضغط المحاصصة والحماية الأجنبية بدلًا من الإرادة الشعبية الحقيقية. أمثلة عراقية واقعية في انتخابات 2010 و2014 و2018، تكررت حالات فوز مرشحين معروفين بالفساد بفضل تجميع الأصوات، في حين خسر مستقلون نالوا أصواتًا شريفة لكنها متفرقة.في بعض المحافظات الجنوبية والغربية، تحوّلت القوائم إلى مظلات لتمرير أسماء لا علاقة لها بالمنطقة أصلًا، مما فاقم شعور التهميش والإقصاء لدى الناخبين. دور الاحتلال والقوى الأجنبية لم يكن خفيًا، حيث ساهم في تثبيت قواعد المحاصصة وتمكين قوى متنفذة على حساب إرادة الشعب. الإصلاحات المقترحة معايير نزاهة صارمة: استبعاد أي مرشح عليه شبهات فساد موثقة أو فرض شفافية مالية ملزمة. دوائر أصغر وتمثيل أقرب للناخب: تقسيم المحافظة إلى دوائر فرعية يقلّل نفوذ المال السياسي ويقرّب الناخب من المرشح. تعديل طريقة توزيع المقاعد: استبدال القسَمات في “سانت ليغو المعدّلة” بأخرى أكثر عدالة للقوائم الصغيرة والمستقلين. تعويض تشتت الأصوات داخل القوائم: ابتكار آلية تحتسب مجموع أصوات المرشحين النزيهين في القائمة وتعطي الأولوية للفائزين منهم بدلًا من الأعلى صوتًا فقط. تعزيز الشفافية والرقابة: نشر بيانات واضحة عن المرشحين ومصادر تمويلهم وتفعيل الطعون الانتخابية بسرعة. تثقيف الناخبين: توعية المواطنين بآليات احتساب الأصوات حتى لا ينخدعوا بشعار «انتخب النزيه من القائمة» إذا كانت آلية التوزيع تصب في صالح غيره. القانون الانتخابي هو العمود الفقري لأي نظام ديمقراطي حقيقي، فهو الأداة التي تترجم إرادة الناخبين إلى تمثيل فعلي في مؤسسات الدولة. لكن إذا لم يُصمَّم ليضمن النزاهة ويترجم الإرادة الشعبية بأمانة، فسيتحوّل إلى أداة لإعادة إنتاج الفساد والهيمنة، ويصبح شكلاً بلا مضمون. الحالة الافتراضية لقائمة فيها 29 نزيهًا ومرشح واحد فاسد ليست سيناريو تخيليًا؛ بل صورة مكثّفة لما يحدث في الواقع عند كل انتخابات، حيث يُعاد تدوير نفس الوجوه المرفوضة شعبيًا بفضل ثغرات القانون. إصلاح القانون الانتخابي ليس ترفًا سياسيًا أو مطلبًا نخبويًا؛ بل ضرورة وجودية لإنقاذ ما تبقى من العملية الديمقراطية في العراق بعد عقدين من الاحتلال، والفساد الممنهج، وتغوّل القوى المتحكمة في المشهد. لذلك شدّدت المرجعية الرشيدة، في أكثر من خطاب، على ضرورة سنّ قانون انتخابي عادل يضمن صوت الناخب ويحمي خياراته ويعكس حقيقة تمثيله السياسي بدل أن يكون أداة بيد أحزاب متنفذة تُعيد إنتاج ذاتها.وبخلاف ذلك، تصبح العملية الانتخابية نفسها فاقدة للمعنى، إذ لا جدوى من مشاركة المواطن في انتخابات لا تضمن وصول صوته إلى من اختاره، بل قد يتحول صوته إلى رافعة لمرشح آخر من أكثر الفاسدين نفوذًا. هذا الوضع لا يكتفي بتهميش إرادة الناخبين، بل يحولهم إلى أدوات غير واعية في إعادة إنتاج نفس المنظومة التي يشكون منها. وهكذا تتحول الانتخابات من فرصة للتغيير إلى مسرح شرعنة لإعادة تدوير السلطة بين نفس الأطراف، وتتحول الديمقراطية إلى واجهة شكلية تخفي استمرار الهيمنة والمحاصصة والفساد.