هل يمكن لجنديٍّ قاتل أن يصبح إنسانًا من جديد؟ كيف يمكن للضمير أن يستفيق تحت وطأة الدم الذي جفّ على اليدين؟ من هو “المنشقّ” فعلًا: ذاك الذي يهرب من المعركة، أم ذاك الذي يتخلّى عن ذاته التي صارت امتدادًا للمحرقة؟ وأين تبدأ المقاومة الحقيقية: على خط النار، أم في لحظة الهروب من كل خطاب عسكري؟ تقول هانا في لحظة مواجهة صامتة: “لا يهمني من أين أتيت، بل من أنت الآن، وأمام من تصمت”.

“سينما المساءلة الأخلاقية”

منذ لقطاته الأولى يضعنا فيلم “المنشق” أو “الهارب” (Der Deserteur) (2025/ المدة 93 دقيقة)، للمخرج كريستوف بومان، أمام سؤال أخلاقي فادح دون أن يزعم امتلاك جواب جاهز؛ وهو فيلم يتفكك على عتبة الندم، ويُركّب سرديته على إيقاع الخوف، وينهض من هشيم العنف ليصوغ احتمالًا هشًا للرحمة. وينتمي هذا العمل إلى ما تُعرف بالدراما التاريخية التأملية، تلك التي لا تُعيد سرد الحرب من أجل التوثيق، بل من أجل مساءلة الرواية الرسمية، من الداخل والخارج، سياسيًا وجماليًا في آنٍ معًا.

وتدور أحداث الفيلم في جبال الألب بعد أيام من سقوط الرايخ الثالث؛ لا يختار ضحية كلاسيكية ولا بطلاً خالصا ونقيا. أنتون، (سباستيان. د . فيشر) الجندي السابق في وحدات الـ SS، رجلٌ مُنشقٌّ عن آلة القتل، لكنه لم يتحرر من ذاته بعد، وهو ناجٍ من الحرب، لكنه غارق في جحيم ما بعدها؛ وحين تلتقي خطواته المصدوعة بامرأة يهودية تدعى هانا (آنا كمينسكي) كانت مختبئة لسنوات في مزرعة نائية، ويتجسد اللقاء بين الجاني والضحية في أقسى صورة ممكنة: لا محاكمة، لا صفح، بل لحظة صمتٍ تزن ثقل قرنٍ بأكمله.

وينتمي فيلم “المنشق” إلى تقاليد السينما الأوروبية التي تتقاطع فيها الأبعاد السياسية والأنثروبولوجية، مستلهمًا من أعمال مخرجين مثل مايكل هانيكه وتيفو بوي؛ غير أنه يخرج من عباءة المعالجة المجازية ليقدّم خطابًا مباشرًا عبر الصورة: الجبل ليس خلفية، بل شخصية صامتة؛ الثلج ليس زينة، فهو غلاف للبرودة الأخلاقية التي تلفّ الشخصيات. وبهذا تنتمي التجربة إلى ما تُسمّى “سينما المساءلة الأخلاقية”، حيث يُنتزع الحدث من التاريخ ليُزرع في قلب الإنسان كمساحة صراع داخلي.

بين لغة الجسد ولغة السياسة

تتشكل إشكاليات الفيلم على مستويات متعدّدة، أبرزها: من يملك حق البداية الجديدة؟ هل يمكن أن تُفصَل المسؤولية الفردية عن السياق الجماعي؟ وهل تسعفنا اللغة في رواية الجريمة بعد أن تفقد مفرداتها معناها؟ هذه الأسئلة لا تُطرَح على لسان الشخصيات مباشرة، وإنما تنبع من تشققات الشخصيات وتاريخها، من نظراتها المرتبكة، ومن لحظات الصمت التي تسود المشاهد الطويلة التي يخترقها صوت الريح أو احتكاك الثلج تحت الأقدام.

ويطرح الفيلم أطروحة مفادها أن النجاة لا تعني الحياة، وأن الغفران ليس حدثًا بل خيارًا يتجدد كل يوم؛ كما يطرح تصورًا جديدًا للمواجهة: ليس القتال هو ما يحدّد البطولة، بل القدرة على النظر في عين الآخر دون أقنعة، ودون أن تُسكتك لعنة الماضي، كما يُسائل مفهوم “المنشق” نفسه: هل الهروب فعل ضعف أم تعبير عن شجاعة نادرة؟ وهل يكفي أن تنسحب من مؤسسة القتل لتكون ضدها؟.

ويسير الفيلم على حافة الحميمي والسياسي، فشخصية الجندي أنتون وهو ينزع شارة الجندية من بدلته لا يخلع السلطة عن جسده، بل يحاول نفيها عبر ممارسات رقيقة: يساعد هانا على جمع الحطب، يصلح تسريبات في السقف، ويتحدث مع فتاتها شارلوت ذات 16 ربيعا (LanaMae Lopičić) عن أملٍ لا يعرف كيف يُسمّيه. في المقابل، تحتفظ هانا بمسافةٍ صلبة، لا لأنها لا تثق به فحسب، بل لأنها تدرك أن مشاعرها ليست مفصولة عن تاريخ جسدها، تقول له في أحد المشاهد: “أنا لا أكرهك، أنا فقط لا أعرف كيف أتوقف عن الخوف منك”.

وتُروى الحكاية بلا ميلودراما، بلا فلاش باك، بلا موسيقى عاطفية تضخِّم المعنى. ويُبنى السرد على التوتّر الهادئ، على الصمت الطويل، على الاقتصاد في الحركة والكلمة، كأنّ الفيلم يطلب من المتفرج أن يصير شاهدًا، لا متلصصًا. ولا تتّخذ الحبكة مسارًا تقليديًا، فالصراع لا يُحسم، والعقدة لا تُحلّ، والانفجار لا يأتي من الخارج، بل من تراكم الصمت بين الشخصيات.

وتعود خلفية الفيلم السياسية والفكرية إلى سياق ألماني ما بعد المحرقة، حيث مازالت البلاد تعيش في ظلال الذاكرة المعطوبة. ويقدم فيلم “المنشق” موقفًا نقديًا من التاريخ، دون أن يسقط في الفجاجة أو الإدانة المباشرة، ويشتبك مع أسئلة العدالة الانتقالية، ويعيد التفكير في مفاهيم الجلاد والضحية، لا لكي يساوي بينهما، بقدر ما يفتح احتمالات جديدة لتجاوز الثنائية نفسها.

في مهبّ الريح والجبل

تتميّز الهوية البصرية للفيلم بالتقشف والاقتصاد الحاد. الكاميرا ثابتة في معظم المشاهد، تُراقب من مسافة، كأنها ترفض التورط العاطفي، لكنها تلتقط كل اهتزاز في الجسد، كل توتر في العين، كل انكماش في الروح. الإضاءة طبيعية، تميل إلى البارد، تسحب الدفء من المشاهد، لتجعل المتفرّج يشعر كما لو أنه يعيش في ما بعد الكارثة، في عالمٍ يُبنى من الرماد.

وتتوارى اللغة الفيلمية خلف التوتر الداخلي. ويطغى اللون الأبيض للثلج على المشاهد، لكن الأبيض ليس طهرًا، بل غلافٌ للخذلان. والموسيقى حين تأتي، تأتي خفيفة مثل تنهيدة، لا تملأ الفضاء بل تهمس في الظلال. كل شيء في الفيلم يوحي بأن الجمال لا يُعاد إنتاجه خارج الألم، بل يتشكل من تشققاته.

في لحظة ذروة صامتة تضع هانا يدها على كتف أنتون وتقول: “أنا لا أريد أن أنسى، لكنني تعبت من أن أتذكّر وحدي”. الجملة تبدو بسيطة، لكنها تختصر كل مشروع الفيلم: أن نشارك الذاكرة كي لا نغرق فيها، أن نتقاسم الذنب لا لتبريره، بل لإعادة بناء المعنى.

هكذا يمضي فيلم “المنشق” في طريقه، لا كنصٍ بصري مغلق ولا كبيان سياسي، وإنما كدعوة صامتة لإعادة النظر في الإنسان تحت جلد التاريخ، فهو لا يسعى إلى نهاية مطمئنة، ولا يقدّم خلاصًا، ولا يقترح تسوية؛ إنه يفتح نافذة صغيرة على صراعٍ لم يُحسم بعد، وصراع داخلي تتقاطع فيه الذكرى بالندم، والرحمة بالخوف، والحب بإمكانية النجاة دون فقدان الذات.

وهكذا يظل السؤال معلقًا، يمشي بجانب الجبل، يتنفس في الثلج، ينظر في عيوننا حين تُطفأ الشاشة… لأن المنفى الحقيقي لا يكون في الجغرافيا، بقدر ما يرتكز في الذاكرة، ولا يتوقّف عند الحرب، بقدر ما يعلن بدايتها بعدها.

بين شبح الذاكرة ومرايا الغفران

حين تشتعل الحرب لا يولد الأبطال بل يُنزع القناع عنهم، وحين تنتهي لا يسود السلام بل تبدأ أسئلة أخرى أعمق من الموت. ماذا يفعل المقاتل حين تنسحب المعركة من حوله وتبقى داخله؟ وكيف يستعيد الفرد إنسانيته بعدما فقدها طواعية؟ وهل يكفي أن ينجو ليبدأ حياة جديدة، أم إنّ الندوب التي تركها في الآخرين تحاصره في ملامحه وفي نومه وفي خطواته؟ هذا هو السؤال الذي يضعه “المنشق” في قلب المتفرج من دون مراوغة.

وتلقى شخصية أنتون في قلبنا دون أن يطلب الحب أو الكراهية؛ إنه جندي سابق في وحدات النخبة النازية، أحد أولئك الذين صنعوا الرعب بقوة الانتماء وعنف الطاعة، وفي لحظة ما، حين تتداعى الرايخ الثالث، يختار أن ينشق ويترك البندقية ولا يحمل معها إلّا ذاكرة ثقيلة وجسدًا متعبًا وعينين تترددان بين الخوف والتكفير؛ فهو لا يطلب الغفران لكنه يبحث عن معنى لحياته بعد أن صار الموت مهنتَه.

ويمشي أنتون في الجبل كأنّه يُفتّش عن نفسه في صخور الغابة في الجليد المذوّب في صدى صرخات لا تزال تتردد في رأسه؛ تصل قدماه إلى بيت مهجور، وهناك حيث تقيم هانا في خفائها السرّي، امرأة يهودية اختبأت طيلة الحرب رفقة طفلتها من آلة الموت النازي، وبينهما تتولّد الحكاية التي لا تريد أن تُروى كحب ولا كغفران، وإنما كتوتر مقيم في صمت العيون. كما تسكن الطفلة شارلوت التي لا تفهم كل شيء لكنها تقرأ كل شيء في نبرة الصوت، في خشونة الخطى، في نظرة أنتون التي تخاف من نفسها أكثر مما تخاف من الآخرين.

ولا يتحدث أنتون كثيرًا لكنه يكشف عن حساسياته في اختياراته الصغيرة، حين يرفض حمل السلاح من جديد، حين يرفض النوم في سرير دافئ دون إذن، حين ينحني لإصلاح خشبة مكسورة في كوخ امرأة تخشاه، كل تلك الحركات لا تبرّئه لكنها ترسم حدودًا جديدة لشخصية لا تريد تبريرًا بقدر ما تحاول أن تعيش على الحافة بين الماضي والممكن. ويمثل أنتون تجسيدًا للجرح الألماني التاريخي، ويمثل الذات التي كانت شريكة في الجريمة ثم استيقظت بعد فوات الأوان دون امتلاك يقين الخلاص.

في المقابل تظهر هانا كامرأة لم تُهزم لكنها فقدت كل شيء، لا تحتقر أنتون لكنها لا تعرف كيف تنظر إليه دون أن تستعيد عذاباتها، وتحيا بحذر وتنظر بصمت مجروح أكثر من الكلمات، فهي لا تكرهه ولا تثق به، وتقول في لحظة مواجهة مباشرة: “إذا اقتربت أكثر قد أختنق”. ولا يسقط هذا الجدار بينهما، لكنه يتنفس ببطء حتى نهاية الفيلم ليصبح ليس عائقًا بل جزءًا من المعنى.

وتقف الطفلة شارلوت على حافة البراءة، تمثل الأمل الممكن، لكن الأمل هنا لا يُنشد بل يُهمَس، فهي لا تعلّق في عنقها أزهار النجاة بقدر ما تسير بينهما مثل شاهد خفيّ على صراع، لا تفهمه لكنها تتنفسه في الجو، وفي نظرات الكبار، وفي النبرة التي تتغيّر، في الليل بين الخوف والحنين.

مواجهة الذات في مرآة الآخرين

يمتد الفيلم بعيدًا عن شخصياته ليطرح أبعادًا اجتماعية واقتصادية وسياسية تتقاطع كلها عند سؤال الكلفة، من يدفع ثمن الإيديولوجيا؟ من يعيش بعد سقوط الأسطورة؟ ومن يبني الحياة بعد أن صارت كل الحكايات كوابيس؟.

“المنشق” هو فيلم عن ما بعد الحرب لكنه ليس عن الإعمار، وإنما عن إعادة تعريف الذات ضمن مجتمع فقد بوصلته، ولم يعد يملك لغة للتعبير عن ألمه دون أن يرتدّ عليه كاتهام.

ويحضر الجانب النفسي بكثافة بين صورة أنتون، الذي يعاني من صدمة صامتة، اضطراب ما بعد الحرب، فهو لا يُصرّح بها، ولكنها تسكن حركاته المتوترة في الليل حين لا يستطيع النوم، وفي صمته أمام هانا، وفي تردّده في لمس أي شيء، وفي الخوف من أن يعود إلى ما كان عليه. وتعمق هذه الطبقة النفسية الشخصية وتُنزِلها من رمزية الجلاد التائب إلى إنسان يحاول أن يواجه ذاته في مرآة الآخرين.

وتنبع الرمزية في الفيلم من المكان أكثر مما تنبع من الحوار. ولا يمثل الجبل مجرد خلفية، فهو كيان حيّ يُملي إيقاعه على الشخصيات. الجبل يحتضن لكنه لا ينسى الثلج المغطى، لكنه لا يُطهّر الصمت هناك، ليس هدوءًا بقدر ما هو سؤالٌ بلغة الطبيعة. ولا تصفح هذه الطبيعة لا لكنها لا تُدين، كما أنها تعكس كل ما يحاول البشر أن يخبّئوه وتعيده إليهم في كل مشهد.

أما البُعد الجمالي فمتجلٍ في كل تفصيلة بصرية، الضوء باردٌ لكنه ناعم يخلق مسافة لا عاطفية بين المتلقي والمشهد، ويجعلنا نراقب دون أن نشارك لأن المشاركة تعني الحكم والكاميرا ترفض ذلك. وتظهر زوايا التصوير ثابتة أو بطيئة. وتتبع الكاميرا الشخصيات دون تدخل، فتُشعرنا بأننا شهود على محاكمة غير معلنة لا يسودها قاضٍ ولا نطق مسبق بالحكم.

ولا تملأ موسيقى الفيلم المشهد بل تأتي كأنفاس خافتة تتناغم مع البرودة الخارجية، فهي ليست تعليقًا على الحدث بقدر ما تمثل امتداد له. وعندما يصمت كل شيء، يكون لصوت النفس، وصوت الريح، صدى درامي يوازي صراخًا داخليًا لا يُقال. ويبقى الصوت الخارجي الوحيد المهم هو ذاك الذي يقوله أنتون حين ينظر لهانا ويقول: “أظنّني أحتاج إلى أن أتعلّم الصمت مثلما تعلّمتِ أنتِ أن تعيشين به”.

من جهة أخرى لم يسلم الفيلم من انتقادات تتعلّق بشبهة التبرئة أو إضفاء إنسانية على الجلاد هناك. ومن رأى أن الفيلم يعيد تدوير الحكاية من زاوية الراوي الألماني الذي يسعى إلى فهم الذات دون أن يقدّم اعترافًا كاملاً. وهناك من اعتبر أن الفيلم متوازن جدًا لدرجة جعلت مشاعر الضحية تتساوى مع مشاعر الجلاد، بينما الجراح لم تندمل بعد في الذاكرة الجمعية.

بدوره انقسم النقد السينمائي الألماني ذاته بين من اعتبره خطوة ضرورية نحو مساءلة الذات الوطنية، ومن رآه محاولة للتهرّب من المساءلة عبر تحويل المجرم إلى بطل تراجيدي.

ما لا يمكن إنكاره هو أن الفيلم يقدّم خطابًا إنسانيًا معقّدًا لا يُبسّط لا الخير و لا الشر وإنما يخلخلهما في لحظة مواجهة شديدة العزلة، حيث لا شهود، ولا أعداء، ولا شعارات. ويصبح المكان في هذا الفيلم ليس فقط عنصر ديكور بقدر ما يصبح بنية سردية مستقلة تحاصر الشخصيات دون أن تدينها؛ الطبيعة هنا تذكّرهم بمن كانوا وتمنحهم فسحة صغيرة كي يقرروا ماذا يريدون أن يصبحوا عليه.

لا تنتهي القصة بقدر ما تستمرّ كارتجافة في العين، كخدش في الصوت، كعلامة استفهام غير مكتملة. يقف أنتون على قمة الجبل في مشهدٍ رمزي لا يقول فيه شيئًا، تنظر هانا إليه من بعيد وتحمل الفتاة بيدها، يقول صوتها الداخلي في مونولوغ أخير ربما كل ما أحتاجه الآن هو وقت كي أقرّر إن كنت أريد أن أصدّق أن الصمت بداية حقيقية للحوار.

هكذا لا يعود البطل بطلًا كما عرّفته الأساطير بل يصبح شخصية تتساءل مثلنا، تبحث عن احتمال لا اسم له في عالم ما بعد الطوفان. ولا يمنحنا فيلم المنشق موعظة، ولا يرسم خريطة طريق ولا يعدنا بغد أفضل بل يضعنا أمام المرآة دون أن يقدّم لنا صورة نهائية يمكن تصديقها.

المصدر: هسبريس

شاركها.