الجنرال.. في متاهاته بين الحسم والتسوية
أحمد عثمان جبريل
“أسوأ ما يبتلى به وطن، هو أن يُحكم بتردّد”.
ألبير كامو
في خضمّ حرب طاحنة لا تبقي ولا تذر، لا يكون الوطن في حاجة إلى القوة فقط، بل إلى وضوح الرؤية.. الرؤية التي يفتقدها كثير من نخب السودان، ووسط هذه الرؤية المفقودة، يقف الفريق عبد الفتاح البرهان، لا كقائد يوجّه البوصلة، بل كمن يتلمّس طريقه بين الرماد، مثقلاً بتردّده، مشدودًا بين شعارات الحسم العسكري وأوهام التسوية السياسية، عند البعض وأشواقها عند آخرين.
فمنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، لم يُظهر الرجل ملامح مشروع واضح، بل بدا كمن يحارب في معركة بلا بوصلة، يتحدث بلغة القوة حينًا، وبإشارات السلام حينًا آخر، لكنه لا يقطع مع أحدهما تمامًا، ولا يفي بوعوده في كليهما. بين كل خطاب وآخر، يتكشّف التناقض أكثر من الانسجام، ويعلو الارتباك على التصميم.
هو تارةً يهدّد بإنهاء “التمرد” بأي ثمن، وتارةً يغازل فكرة الحوار المشروط.. يتعهد بتنظيف الجيش من الإسلاميين، ثم يعود ليعقد التحالفات معهم، ويعين فاعلين من صفوفهم الثانية، في مشهد يُجسّد أزمة أعمق من مجرد تذبذب سياسي: إنها أزمة مشروع.. بل غياب المشروع نفسه.
لا يبدو أن القيادة التي تتولى زمام الأمر، وفي مقدمتها البرهان، تنظر إلى السلطة بوصفها مسؤولية وطنية تتطلب تضحية واستراتيجية، بل كغنيمة لا بد من حمايتها ولو على أنقاض هذا الدمار الذي خلفته حرب عبثية.. ولهذا، فإن خطابات البرهان التي يطلقها أمام كل حشد، لا يطمئن لها، بل تكشف عن هوّةً متسعة بينه وبين تطلعات وطن منكوب، يبحث عن مخرج لا عن مزيد من الوعود و الشعارات.
في تحالفاته، يراوح البرهان بين القوى المدنية دون تمكين، وبين الإسلاميين دون وفاء، فلا يمكّن هؤلاء ولا يتخلّى عن أولئك.. (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) أما الجماهير، فتقف على حافة اليأس، محاصرةً بين سلطتين لا شرعية لأي منهما: الجيش في الشرق، والدعم السريع في الغرب، والمضحك المبكي أن كلٌّ يدّعي الوصاية على وطن يتفتّت.
في الواقع، لم يعد السودان واحدًا على الأرض، وإن بقي كذلك على الخرائط.. فبينما ترسّخ قوات الدعم السريع سلطتها في دارفور وكردفان وغرب البلاد، وتعلن حكومة موازية عبر تحالف “تأسيس”، ينكفئ الجيش في الشرق، مستندًا إلى “شرعية الأمر الواقع”، بلا مشروع سياسي جامع، وبلا حلفاء حقيقيين..
وهذا الانقسام الجغرافي والسياسي، ما كان له أن يترسّخ لولا غياب القيادة الحاسمة، التي لا تكتفي بإدارة الحرب، بل تدير البلاد برؤية وطنية تعلو على الحسابات الضيقة.
ويبقى البرهان.. عبء المرحلة، حيث يسافر من عاصمة إلى أخرى، لكن بلا خريطة طريق. يحدّث المجتمع الدولي بلغة القوة، فيما العالم ينتظر قائدًا يمدّ يده نحو السلام لا بندقيته.. يرفض الحوار مع خصمه، ويراهن على نصرٍ في رقعة جغرافية واسعة يصعب حسمها، ويتصرّف كمن يهرب إلى الأمام من أسئلةٍ لا يملك إجاباتها.. وهكذا، يتحوّل البرهان من “فرصة محتملة” إلى “عبء واقعي”، ومن شريك سلام ممكن، إلى خصم لا يعرف كيف يربح الحرب، ولا كيف ينهيها.
إننا نقول دائماً: عند لحظات الخراب، لا يكون التردّد مجرّد ضعف سياسي، بل خيانة لحلم شعب نزل إلى الشوارع يطلب الكرامة.. الكرامة التي حولوها إلى حرب، والتاريخ، كما علّمنا، لا يرحم من يتردّد حين يستوجب الحسم، ولا من يتلكأ حين ينادي الوطن… فهل يتغير البرهان؟
هل يتحرك من دائرة الإنكار إلى مسؤولية المبادرة؟ هل يرى أن الوقت يسرق السودان من بين يديه، لا من يد عدوه فقط؟
الأسئلة كثيرة، والوقت شحيح.. أما الوطن: فإما أن نعود إليه، أو نتركه يتوزع على خرائط لا نعرفها.. إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير