عجزت مصر فأصبح سد النهضة واقعا وأمن قومي سوداني 

أحمد عثمان جبريل

“الحقيقة لا تهزمها الضوضاء، بل تُرسخها”.

جبران خليل جبران

في زمنٍ تحكمه الوقائع لا التهديدات، يصبح سد النهضة واقعًا جيواستراتيجيًا لا تُجدي معه التصريحات الغاضبة، ولا تُغير شيئًا فيه نبرة “الرد المناسب”..  فقد افتتح السد رسميًا، بحضور أفريقي واسع، وبدعم داخلي إثيوبي لم يضعف رغم كل الضغوط. ومن هنا، فإن استدعاء مفردات “الردع” بعد 14 عامًا من البناء، يبدو أكثر تعبيرًا عن العجز السياسي منه عن الجاهزية العسكرية أو القانونية.

لكن في خضم هذا المشهد، هناك سؤال مُلحّ يجب أن يُطرح من داخل الخرطوم لا من خارجها: ما موقع السودان من هذا التحول الكبير؟ وهل نحن شهود عيان على خطر داهم، أم شركاء محتملون في فرصة إقليمية؟

منذ اللحظة التي بدأت فيها إثيوبيا في بناء السد عام 2011، وحتى لحظة تدشينه بالأمس، ظلت القاهرة تتحدث عن “الخط الأحمر”، وتلوّح بورقة “الرد المناسب”، دون أن تُقدِم على أي تحرك فعلي لا دبلوماسي ناجع، ولا عسكري مباشر.. وهنا يُطرح السؤال المشروع:

لماذا تُركت إثيوبيا تبني السد عامًا بعد عام، مرحلة بعد مرحلة، حتى اكتمل؟..

ولماذا لم تُفعل مصر أي من أوراقها الصلبة خلال مراحل الملء الأولى والثانية والثالثة، حين كان السد لا يزال تحت الإنشاء، وتوازن القوى أكثر مرونة؟

إنَّ من يتأخر عن الفعل في لحظة الحسم، لا يُعوَّل عليه حين تُغلق الأبواب، وتتحول الوقائع إلى حقائق غير قابلة للتفاوض.. انتهى الزمن؛ فاربعة عشر عاما كانت أكثر من كفيلة لتغيير مستقبل هذا السد، أما الآن وبافتتاحه، فقد أصبح السد أمن قومي للسودان قبل أن يكون خطرًا عليه.. هكذا يقول الواقع فقد انضم سد النهضة إلى أمن السودان شاء من شاء وأبى من أبى.

ولذلك نقول إنه وبعيدًا عن الاستقطاب الإقليمي، يجب أن يُفكر السودانيون اليوم بعيون سودانية بحتة: إن أي اعتداء على سد النهضة، سواء كان عسكريًا أو تخريبيًا، لا يُهدد إثيوبيا وحدها، بل قد يكون كارثيًا على السودان قبل غيره.. لماذا؟ لأن سد النهضة يقع فوق سد الروصيرص مباشرة، على بُعد 15 كيلومترًا فقط، أي أن أي تصدع أو انهيار في بنيته سيؤدي إلى تدمير كارثي للسدود السودانية ومناطق واسعة من النيل الأزرق.

هناك ملايين السودانيين يقطنون على ضفتي النهر، ويعتمدون على مياهه في الشرب والزراعة، وأن أي فيضان مفاجئ نتيجة انهيار السد سيتحول إلى كارثة بيئية وإنسانية فورية في السودان.. كارثة لا يمكن أن يتصورها العقل.

من هذا المنطلق، فإن أمن سد النهضة يجب أن يُدرج في صميم الأمن القومي السوداني. التهديدات الموجهة ضد السد سواء من جهات رسمية أو غير رسمية لا تخدم السودان في شيء، بل تُقربه من حافة الخطر.

ولكن وسط هذا الواقع الذي أصبح حقيقة لا تزال مخاوف الانهيار موجودة عند بعض السودانيين.. فهل هي حقيقية؟.. إن ما يروّجه البعض، خصوصًا من الأطراف المعارضة للمشروع، لفكرة أن سد النهضة مهدد بالانهيار، بسبب “عيوب في التصميم” أو “غياب دراسات الأمان” أجابت عليه دراسات الخبراء علميا وفنيا، فقد أجمعا من الناحية العلمية والفنية، بأنه لا توجد حتى اللحظة أدلة قاطعة تُثبت أن السد مصاب بتصدعات تهدد وجوده.

فما نعرفه علميًا، أن السد صُمم من قبل شركة إيطالية كبرى (Salini Impregilo)، ونفذته فرق هندسية بخبرات متعددة، ولم تُسجل حتى الآن تشققات حرجة أو تسريبات غير مسيطر عليها وفق بيانات الأقمار الصناعية ومصادر فنية متعددة.

إثيوبيا نفسها ليست في مصلحتها انهيار السد، ولديها موارد كبيرة لحمايته، لكن رغم ذلك، لا يعني هذا أن المخاطر غير موجودة.. أي سد عملاق في العالم يحمل خطرًا محتملاً، سواء نتيجة خطأ بشري أو كارثة طبيعية أو اعتداء خارجي.. وهنا يكمن مربط الفرس: إذا كان السودان هو الأقرب جغرافيًا، فهو كذلك الأكثر عرضة للخسارة في حال حدوث الأسوأ. وبالتالي، فإن دعوات “ضرب السد” التي تُطلق من مصر، ينبغي أن تُقابل في الخرطوم بالرفض الحاسم والصريح.

ولذلك علينا كسودانيين، أن نسأل أنفسنا ما هي مصالح ومكاسب السودان من هذا السد، وما هي مخاوفه وخسائره؟..

إذ تنحصر المكاسب في أولا: تنظيم انسياب مياه النيل الأزرق، ما يُقلل من الفيضانات المدمرة التي اعتادها السودان سنويًا.

ثانيا: فرصة لاستيراد الكهرباء الرخيصة من إثيوبيا عبر الربط الشبكي، مما يخفف من أزمة الطاقة المتفاقمة.

ثالثا: تخفيض الطمي الذي يُقلل فعالية السدود السودانية، ورفع كفاءة التخزين الزراعي.

رابعا: فرصة لتوسيع الرقعة الزراعية باستغلال الانسياب المنتظم.

أما عن المخاوف فنجدها في.. اولا: غياب اتفاق قانوني مُلزم، يجعل إثيوبيا صاحبة اليد العليا في التحكم في تدفقات المياه.

ثانيا: خطر الإفراج المفاجئ عن المياه في أوقات الأزمات أو النزاعات.

ثالثا: تهميش السودان في التفاوض النهائي، خاصة في ظل انشغاله بالحرب الأهلية الداخلية.

ليبقى السؤال الجوهري.. إلى أين يجب أن يتجه السودان الآن؟.. إننا نقول وبدلًا من الارتهان إلى خطابات الغضب القادمة من القاهرة، يجب أن ينتهج السودان سياسة مستقلة وواقعية، تضع أمنه القومي أولًا..

إذ لا مصلحة للسودان في عداء مفتوح مع إثيوبيا، بل في تفاهم فني دقيق على أسس واضحة، تُؤمن له تدفق المياه، وتحميه من الكوارث، وتُدخل في حساباته فرص التعاون الكهربائي والزراعي.

أما الحديث عن “ضرب السد”، فبالنسبة للخرطوم، ليس خيارًا، بل تهديد وجودي يجب صده علنًا، وأسماء لا تزلفا.

إنّ أسوأ ما يمكن أن تفعله الدول هو أن تُخطئ في التوقيت، ثم تحاول تعويض خطأها، بالصوت المرتفع.. سد النهضة حقيقة واقعة، لا تهدمها التهديدات ولا تلغيها البيانات، والسودان اليوم أمام فرصة ليُعرّف أمنه القومي بطريقة جديدة: لا بالانحياز الأعمى لأي طرف، بل بحساب مصلحته أولًا، وأمن شعبه قبل كل شيء… إنا لله ياخ.. الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.