في مساء التاسع من سبتمبر ٢٠٢٥، لم يكن الصاروخ الذي شقّ سماء الدوحة مجرد انفجار في جغرافيا محايدة، بل كان إعلانًا عن انهيار أوهام كثيرة. فالعاصمة التي اعتادت أن تجلس على طاولة الوساطة، وتقدّم نفسها كمساحة آمنة بين المتخاصمين، وجدت نفسها فجأة هدفًا مباشرًا للنار. ستة قتلى، بينهم نجل خليل الحيّة، ونجاة خالد مشعل من موت مؤجل. إسرائيل قالت ببرود إن الضربة “مبرّرة”، وكأن السيادة القطرية ورقة تُسحق في ممرات القوة بلا حساب.

هذه ليست الضربة الأولى في تاريخ العرب، لكنها تحمل بصمة مختلفة هذه المرة: لم تقع في بيروت التي تُقصف منذ العام ١٩٦٨ كصفحة أولى في كتاب الإهانات، ولا في بغداد التي استُهدفت عام ١٩٨١ كفصل دموي آخر، ولا في دمشق التي عاشت تحت الصواريخ طوال العقد الماضي كهامش يتكرر بملل. هذه المرة، كتبت الضربة سطرها في قلب الخليج، في مدينة ارتبط اسمها بالدبلوماسية. وهنا يكمن المعنى الأعمق: الوساطة نفسها لم تعد حصانة، وأضحى الحياد في عرف البنادق جريمة لا تُغتفر.

أمريكا بدورها لعبت لعبتها الأزلية. لم تعط الضوء الأخضر، لكنها لم ترفع الأحمر أيضًا. أعلنت أنها أُبلغت متأخرة، وكأن التواطؤ يمكن أن يُدار بالتوقيت. تلك هي فلسفة الغياب الحاضر: أن تكون واشنطن في كل واقعة حتى حين تتظاهر بالبراءة. الغطرسة هنا ليست في القوة وحدها، بل في القدرة على جعل الإنكار نفسه جزءًا من اللعبة.

ردود الفعل العربية جاءت كما العادة: بيانات إدانة من الرياض والقاهرة وأبوظبي وعمّان، عبارات محفوظة تشبه طقوس العزاء الجماعي. أما الشارع العربي فقد التقط الرسالة في عمقها: أن الضربة على الدوحة ليست حادثة معزولة، بل امتداد لسلسلة طويلة من الصفعات، من النكسة ١٩٦٧ إلى غزو العراق ٢٠٠٣، إلى حصار غزة ٢٠٠٨ وما تلاه. وكأن الإذلال صار عادة، والاعتياد صار فلسفة يومية.

لكن الأهم ليس في تعداد الإهانات بل في تحليل معناها: الضربة على الدوحة لم تستهدف قيادات حماس فقط، بل حاولت اغتيال الفكرة ذاتها، فكرة أن هناك مساحة يمكن أن تقف خارج دائرة النار. فإذا بالرسالة الفلسفية للصاروخ تقول: لا وجود لمنطقة رمادية، لا وسيط بين القوي والضعيف، لا مدينة محايدة. الكل داخل اللعبة، والكل قابل للاستهداف.

المفارقة أن الدوحة نفسها كانت تحتضن اجتماعًا لمناقشة الخطة الأمريكية لوقف الحرب في غزة ساعة وقوع القصف. أي عبث أبلغ من هذا؟ أن يجتمع القادة في مدينة تُسمّى وسيطًا لمناقشة مقترح أمريكي، بينما إسرائيل، الحليفة الأولى لواشنطن، تقصف نفس المكان. هنا يتجلى جوهر الازدواجية: أمريكا لا تملك إلا أن تترك الباب مواربًا، فلا ضوء أخضر ولا أحمر، بل رمادية قاتلة تسمح بالقتل وتنفي المسؤولية.

من زاوية فلسفية، هذه اللحظة تفتح سؤالًا عن معنى السيادة في زمن بلا سيادة. هل ما زالت هناك سيادة عربية يمكن أن تُهان؟ أم أن الإهانة صارت جزءًا من تكويننا؟ الصاروخ الذي هبط على الدوحة لم يمزق بيتًا فحسب، بل مزق قشرة الوهم التي نتستر بها: أن هناك خطوطًا حمراء، أن هناك حصانات، أن هناك وساطة تحمي من النار. الضربة قالت بوضوح: لا حصانة إلا للقوة، ولا سيادة إلا للمستبدّ، ولا كرامة إلا في الخيال.

ولعل أجمل ما يكشفه هذا المشهد هو التباين بين الموقف الرسمي والموقف الشعبي. الحكومات أصدرت بياناتها المكررة، بينما الشارع العربي فهم أن كل ضربة على عاصمة عربية هي ضربة على الجميع. أن القذائف التي سقطت في الدوحة لم تكن سوى صدى لقذائف قديمة في بيروت وبغداد وغزة ودمشق. التاريخ هنا لا يسرد أحداثًا متعاقبة، بل يعيد إنتاج الجرح نفسه بأشكال مختلفة.

الفلسفة القاسية لهذا الحدث أنه يفضح وهم الوساطة، ويكشف أن “الحياد” في زمن القوة ليس سوى امتياز قابل للانفجار. الدوحة، وهي تداوي جراحها، صارت رمزًا لانكشاف الحجاب: أن الوسيط لم يعد محايدًا، وأن حتى المدن التي كانت تعتقد أنها في مأمن، صارت أهدافًا في لعبة أكبر من قدرتها على الاستيعاب.

وهكذا تتحول الضربة من واقعة عسكرية إلى نص فلسفي عن العجز: نص يقول لنا إن العرب لم يعودوا بحاجة إلى أعداء كي يُهزموا، بل يكفيهم أن يعتادوا الهزيمة حتى تصير جزءًا من يومهم. النص يذكرنا بأن الغطرسة الأمريكية ليست فقط في القوة، بل في إدارة التناقض: أن تنفي العلانية وتؤكد الفعل. وأن الاستهتار الإسرائيلي ليس فقط في القصف، بل في تحويله إلى رسالة سياسية وأخلاقية.

وفي النهاية، يبقى السؤال معلقًا كقذيفة لم تنفجر بعد: هل تُقرأ الضربة على الدوحة كإهانة جديدة تضاف إلى السجل الطويل، أم كصرخة توقظ المعنى المفقود للكرامة؟ هل سيظل العرب يكتبون بيانات الإدانة كما يكتبون نشرات الطقس، أم يكتشفون أن المعنى لا يُستعاد بالكلمات بل بالفعل؟

الدوحة، في تلك الليلة، لم تُستهدف كمدينة فحسب، بل كرمز. والرمز الأعمق أن الوساطة لم تعد درعًا، وأن العواصم العربية لم تعد محصنة. الصاروخ الذي سقط على الدوحة لم يسقط على قطر وحدها، بل على فكرة السيادة العربية نفسها: فكرة هشّة تتهاوى كلما اصطدمت بحقيقة القوة.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.