«نافع».. يشرعن القتل ويجمل الفوضى باسم «الانتصار الوطني»

أحمد عثمان جبريل

“السياسة هي فنّ منع الحرب، فإن لم تمنعها فهي انحدرت إلى مستوى من الغريزة لا يليق بالبشر”.
ريمون آرون

تحدثنا وقائع التاريخ أن الحرب لم تكن يومًا حلاً، بل دائمًا ما كانت تعبيرًا فادحًا عن فشل السياسة والسياسيين، لأنها ببساطة آله دمار تقضي على الأخضر واليابس، تجلب الموت ولا حياة بعده، ومن ينجو منها يقع في شرك مأساتها، ذلك لأنها تفكك كل شيء في حياة الإنسان، دولته واقتصاده ومجتمعه، وتجلب له اسواء أنواع العذاب والمعاناة، إنها ببساطة، انهيار العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.

وفي السودان، حيث تتجاذب البلاد نيران حربٍ مدمرة، يخرج علينا أحد أبرز رموز النظام البائد، الدكتور نافع علي نافع، وما أدراك ما نافع، ليعلن من منبرٍ خارجي في ماليزيا أن “لا حل إلا الحسم العسكري”، ضاربًا عرض الحائط بضحايا الحرب، ومستهينًا بكل نداءات التفاوض والحل السلمي.

وحينما تسمع ما قاله صاحب(لحس الكوع) يقفز إلى ذهنك مباشرة السؤال الموضوعي والذي هو ليس فقط في محتوى التصريح، بل في موقع قائله، وسياق إطلاقه، والغاية السياسية التي يخدمها.. فهل نحن إزاء موقف فكري صادق نابع من تحليل واقعي؟ أم أن ما قيل لا يعدو أن يكون محاولة يائسة لإعادة إنتاج مشروع سياسي اندحر، ولم يجد له موطئ قدم في أي فضاء ديمقراطي حر؟
وأنا هنا أعني تحديدا طبيعة التصريح وأدواته الخطابية، إذ أن تصريحات نافع جاءت بلغة قاطعة لا تحتمل التأويل: “الحرب هي الحل. وهذا النوع من الخطاب لا يعتمد على الحجة، بل على التهديد.. وقد ظل هذا أسلوبه طوال تاريخه السياسي، فهو لا يعرض رؤية سياسية متماسكة، بل يلوّح بعصا القوة الآن و كما كان يفعل سابقا، وفي ذلك ما يكشف عن خلل بنيوي في افتفكير السياسي لهذا الحزب، في أنه لا يزال حبيس معادلة “القوة تصنع الشرعية”.. مما يشير بوضوح أنهم لم يتعلموا شيئا من تجربة السقوط التي لا يزالون يدفعون فواتيرها.

ولكن الأدهى أن تصريحات نافع هذه تثير الضحك، إذا ما نظرنا إليها بعين فاحصة، فنافع يتحدث من خارج السودان، لا من داخله، ما يثير أسئلة أخلاقية حول من يتحدث من مأمنه في حين يحترق الداخل، ويتساقط الضحايا بالعشرات يوميًا.. إنها ممارسة قديمة لأحد أبرز رموز “الدولة العميقة”، تسعى لشرعنة القتل وتجميل الفوضى باسم “الانتصار الوطني”.

وثانيًا: هل هي دعوة للحسم أم اعتراف بالضعف؟.. يبدو أن هذا الخطاب، وإن تلبّس لبوس القوة، فإنه لا يخفي هشاشة موقف أصحابه.. فالحرب بالنسبة لتنظيم كالمؤتمر الوطني لم تكن يومًا خيارًا أخلاقيًا، بل ضرورة وجودية.

فمنذ أن أطاحت به ثورة ديسمبرالمجيدة، لم يعد للحزب المحلول موضع في المعادلة السياسية، ولا امتداد شعبي معتبر، ولا حتى تحالفات إقليمية أو دولية ذات وزن.. وهكذا يصبح العنف المسلح أو الحديث عنه آخر أوراق البقاء.. فحين تفشل الأدوات السياسية، ويُمنع شعبيا من العودة للحكم، فإن أسهل الطرق هي ركوب موجة الحرب، وتقديم نفسه كـ”فاعل ضروري” ضمن معادلة لا سياسية ولا مدنية.

ثالثًا: بنية الفكر الانقلابي في خطاب المؤتمر الوطني، تشير إلى أن هذا الحزب لا يعرف معنى السياسة في سياقها الحديث: (التفاوض، الشفافية، بناء الدولة، تداول السلطة) إنه تنظيم قام منذ البداية على الانقلاب على كل ما هو مدني، وكان مشروعه مؤسّسًا على: (عسكرة الدولة والمؤسسات؛ احتكار السلطة وشيطنة الخصوم؛ تفكيك الهوية الوطنية لصالح مشروع أممي مغلق؛ توظيف الدين لتبرير الاستبداد).. وبالتالي، فإن الحديث عن الحسم العسكري ليس انزلاقًا جديدًا، بل امتداد طبيعي لعقيدة تنظيم لم يعرف غير العنف وسيلة للحكم أو للبقاء.

رابعًا: و في الرد على حجج نافع ومثله، فإن الحجة القائلة : إن أي حل سياسي قد يعيد تحالف “الدعم السريع” مع المدنيين، وبالتالي يجب منعه بالحسم العسكري، هي حجة جوفاء لعدة أسباب:
المدنيون أسقطوا البشير سلمياً، وهم أوّل من نادى بتفكيك ميليشيا الدعم السريع (العسكر للثكنات والجنجويد ينحل) .. الحرب دمّرت الدولة بالكامل: اقتصادياً، اجتماعياً، وجغرافياً.. لا مكسب وطني في صراع يجعل من الخراب حقيقة يومية .. أما الحديث عن “تحالفات محتملة” لا يبرر استمرار نزيف الدم، بل المطلوب هو بناء نظام مدني قوي يحاصر الميليشيات بقوة الدولة، لا بإنتاج حرب مضادة.

خامسًا: ما الذي تريده الحركات الإسلامية في السودان اليوم؟.. واضح إن هذه الحركة الإسلامية، التي تماهت مع المؤتمر الوطني لعقود، فشلت في تقديم نموذج حكم أخلاقي، والآن في مرحلة ما بعد السقوط، تحاول إما: العودة عبر بوابة الحرب؛ أو التسلل في غطاء “نداءات وطنية”جوفاء.

لكن السودانيين جرّبوا هذه الوجوه، وهم أكثر وعيًا اليوم.. ولذلك، فإن خيار الحرب ليس فقط غير أخلاقي، بل غير واقعي سياسيًا حتى.

إننا نقول: إنه و من أجل وطن لا يكون فيه الدم وسيلة للعودة، فإن خطاب نافع علي نافع، في جوهره، لا يعبّر عن مشروع، بل عن (هلع) سياسي من مجتمع يتغير، ووعي شعبي يتشكل.. نعم (هلع) وهذا هو التوصيف الدقيق لتصريحاته التي لاتعدو أن تكون مجرد محاولة لوقف عجلة التاريخ، عبر سلاح لم يعد يملك شرعية وطنية ولا غطاء شعبي.. وذلك لغياب مشروع سياسي واقعي للمؤتمر الوطني، ذلك لأنه لا يطرح برنامجاً للحكم أو للمصالحة أو حتى لمخاطبة الشارع، بل يعود من جديد لخطاب القوة والعنف، ما يعني انعدام الثقة في الشارع السوداني، لعلمه يقينا بأن البديل عند السودانيين أضحى واضحا :” سودان مدني، ديمقراطي، لا وصاية فيه لعسكر أو ميليشيا أو تنظيم”. سودان لا يعلو فيه صوت على صوت السلام، ولا يعود فيه من لفظه الشارع، مهما حاول ركوب موجة السلاح.
قال المناضل نيلسون مانديلا وهو يطلق حمامات السلام: “السلام لا يُبنى بالسلاح، بل بالثقة.”.. إنا لله ياخ.. الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.