عمر سيد أحمد خبير مصرفي ومالي مستقل
المقدمة: الحرب وإرث ثلاثة عقود من التراجع
رغم ما خلّفته الحرب من دمار وتشريد، فإن مصيرها أن تنتهي. وننادي بوقفها الفوري حتى يتوقف نزيف الدم، ويعود المشردون، وتستعاد الحياة. لكن ما ينتظر السودان بعد الحرب هو المهمة الأصعب: إعادة البناء وتضميد الجراح. ففي ظل محدودية فرص التمويل في المناخ الجيوسياسي الراهن والانهيار الاقتصادي شبه الكامل، تبرز أسئلة الخيارات والفرص، مع تزايد الحاجة إلى حشد الموارد الذاتية، ووقف نهبها وتجريفها، وتحويلها إلى قاعدة لإعادة الإعمار. لكن جذور الأزمة الثقافية والإبداعية في السودان أعمق من الحرب الحالية. فخلال ثلاثة عقود من حكم الإسلاميين (19892019)، جرى إفساد المناهج التعليمية وتسييسها أيديولوجيًا، وإفقار المؤسسات الثقافية والإبداعية، وقُمعَت الفنون التي كانت تميز السودان من سينما ومسرح وفنون تشكيلية وموسيقى. هذا التراجع البنيوي أضعف قدرة المجتمع على تطوير مبادرات إبداعية قابلة للتحول إلى صناعات. ومع ذلك، قاومت مبادرات فردية هذا المناخ المعادي. فقد قدّم المخرج السوداني أمجد أبو العلاء فيلمه “ستموت في العشرين” (2019)، الذي أعاد السودان إلى الخريطة السينمائية العالمية، مستندًا إلى إرث رواد مثل جاد الله جبارة وغيرهم ممن أنتجوا أفلامًا منذ ستينيات القرن الماضي. كذلك، عزز الغناء السوداني حضوره الثقافي في أفريقيا والعالم العربي.
دور الفنون والآداب التشكيلية
إلى جانب السينما، لعبت الموسيقى والأدب والفنون التشكيلية السودانية دورًا محوريًا في إبراز الهوية الثقافية للسودان خارج حدوده. فقد حمل محمد وردي ورفاقه الأغنية السودانية عبر أفريقيا والعالم العربي، ممزجين إيقاعات النوبة ووادي النيل ودارفور في صوت حديث تخطّى الحدود الوطنية. كانت موسيقاهم صوت مقاومة وجسرًا ثقافيًا. وفي الأدب، وضع الطيب صالح السودان على الخريطة الأدبية العالمية من خلال أعماله مثل “موسم الهجرة إلى الشمال”، التي تُرجمت على نطاق واسع وصارت من كلاسيكيات الأدب ما بعد الاستعمار، كاشفة تعقيدات الهوية السودانية والتداخل بين التراث والحداثة. أما الفن التشكيلي، فقد أسس إبراهيم الصلحي، أحد أبرز رواد الحداثة في أفريقيا، مدرسة إبداعية وصلت إلى المعارض العالمية. وواصل خريجو كلية الفنون الجميلة والتطبيقية مثل عصام عبد الحفيظ هذا الإرث، مجربين أشكالًا وأساليب جديدة مع الحفاظ على الجذور المحلية. هذه المساهمات في الموسيقى والأدب والفن التشكيلي تؤكد أن ثروة السودان الإبداعية لا تقتصر على السينما، بل تقوم على منظومة ثقافية متكاملة يمكن أن تكون ركيزة للاقتصاد البرتقالي ودعم إعادة الإعمار.
ما هو الاقتصاد البرتقالي؟
الاقتصاد البرتقالي، أو الاقتصاد الإبداعي، يقوم على تحويل الفنون والثقافة والإبداع إلى قوة اقتصادية حقيقية. فتصبح الموسيقى والسينما والحرف اليدوية والمحتوى الرقمي وحتى الأزياء مصادر للدخل والتوظيف، وأدوات لإعادة بناء الهوية الوطنية. نشأ المفهوم في بدايات العقد الثاني من الألفية، حين أصدر البنك الأمريكي للتنمية (IDB) كتابه المرجعي عام 2013 بعنوان “الاقتصاد البرتقالي: فرصة لا نهائية”. اختير اللون البرتقالي لارتباطه عالميًا بالطاقة الإبداعية والثقافية. ومع الثورة الرقمية منذ التسعينيات وصعود الإعلام الجديد، تطور الاقتصاد الإبداعي إلى قطاع تنافسي عالميًا.
واليوم، يتطور المفهوم إلى ما يُعرف بـ “الاقتصاد البرتقالي 4.0″، حيث يلتقي الإبداع بالتكنولوجيا الرقمية وثورة الصناعة الرابعة.
الأهمية الاقتصادية العالمية
تشير البيانات الحديثة إلى أن الاقتصاد البرتقالي: • يساهم بما يقارب 2.3 تريليون دولار سنويًا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي. • يدعم حوالي 48.4 مليون وظيفة. • يشكّل نحو 10% من الناتج المحلي في دول مثل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. • يمثل أكثر من 5% من الناتج المحلي في كينيا وإثيوبيا. • ولو اعتُبر دولة قائمة بذاتها، لاحتل المرتبة الرابعة كأكبر اقتصاد في العالم. وبحسب تقارير الأونكتاد (UNCTAD) واليونسكو (UNESCO)، تولّد الصناعات الثقافية والإبداعية نحو 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (أكثر من تريليوني دولار)، وتوظّف قرابة 50 مليون شخص، نصفهم تقريبًا من النساء، ونسبة كبيرة من الشباب (1529 عامًا). وقد تجاوزت عائدات الاقتصاد الإبداعي عالميًا عائدات قطاع الاتصالات.
الاعتراف الدولي والأممي
في عام 2021، أعلنت الأمم المتحدة “السنة الدولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة”، اعترافًا بدوره في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (العمل اللائق، الابتكار، تقليص التفاوتات). ولأول مرة، وضعت قمة العشرين الاقتصاد الإبداعي على أجندتها كأداة للتعافي بعد الجائحة. وقد أنشأت دول عدة وزارات أو هيئات متخصصة للاقتصاد الإبداعي مثل إندونيسيا والإمارات فيما تبنت أخرى استراتيجيات وطنية لدعم الصناعات الثقافية. وتشير تقارير الأونكتاد (2021) إلى أن أكثر من 30 دولة باتت تعتبر الاقتصاد البرتقالي قطاعًا استراتيجيًا.
دروس من العالم: من نوليوود إلى برشلونة
• نيجيريا: أصبحت نوليوود (صناعة السينما) ثاني أكبر مشغل بعد الزراعة. • المغرب: تشكّل الصناعات الثقافية نحو 7% من عائدات السياحة. • الإمارات: أنشأت مناطق حرة مثل مدينة دبي للإعلام وحي دبي للتصميم. • مصر: لعقود، لعبت السينما والدراما دورًا في تعزيز قوتها الناعمة. • إثيوبيا: وظّفت الموسيقى الحديثة والتقليدية لتعزيز الهوية الوطنية. • إسبانيا: تحولت برشلونة ومدريد إلى مراكز إبداعية بفضل الاستثمار في الفنون. • إيطاليا: مركز عالمي للأزياء والأوبرا والسينما. • فرنسا: سباقة في جعل الثقافة ركيزة للسياسات العامة. • كولومبيا: من أوائل الدول التي دمجت المفهوم في سياساتها الوطنية.
السودان: إرث ثري وموارد مهمَلة
يمتلك السودان أحد أعمق المخزونات التراثية في المنطقة من أهرامات مروي وآثار نبتة إلى موسيقى دارفور والنسيج النوبي وأغاني الطمبور. لكن هذا الثراء ظل مهمَلًا بفعل الإهمال المؤسسي وضعف الإنفاق الثقافي. وقد عمّقت الحرب الأخيرة الجراح: ملايين الطلاب انقطعوا عن التعليم، ودُمّرت المسارح والمراكز الثقافية، وتوقفت معظم الأنشطة الفنية. وتفيد تقارير اليونسكو (2024) بأن نحو 70% من المؤسسات التعليمية والثقافية تضررت مباشرة أو غير مباشرة بفعل النزاع.
نماذج سودانية ملهمة
من أبرز الأمثلة مبادرة هشام صالح عبد الرحمن في غرب السودان، الذي تعاون مع مزارعين في زراعة الفول السوداني وتصنيعه عبر آلة صممها أحد طلاب جامعة الجزيرة كمشروع تخرج. وقد مكنت هذه الابتكار من إنتاج أغذية اعتمد عليها لاحقًا برنامج الغذاء العالمي في مناطق الكوارث.
خارطة طريق للسودان
حتى يصبح السودان لاعبًا في الاقتصاد البرتقالي، لا بد من خطوات أساسية: 1) الاستثمار في الشباب عبر برامج تدريبية في الفنون والتصميم. 2) إحياء التراث ودمج رموز وطنية مثل مروي ونبتة في السينما والأزياء. 3) إعادة تأهيل البنية التحتية المسارح، المراكز الثقافية، دور السينما. 4) دمج التعليم الفني والمهني لدعم الصناعات الإبداعية. 5) إنشاء صندوق وطني للصناعات الإبداعية يقدم قروضًا وضمانات. 6) إصدار حوافز وتشريعات حماية الملكية الفكرية، إعفاءات ضريبية. 7) إشراك البنوك والقطاع الخاص لتصميم منتجات تمويل مبتكرة. 8) بناء شراكات دولية مع اليونسكو والبنك الدولي والاتحاد الأفريقي. إدماج السودان في مسار الاقتصاد البرتقالي 4.0 يتطلب تأسيس استراتيجية وطنية تقوم على ركائز الابتكار الرقمي، حماية الملكية الفكرية، والتعاون الدولي.
أكثر من اقتصاد… مشروع وطني
الاقتصاد البرتقالي ليس مجرد قطاع اقتصادي جديد، بل هو مشروع وطني لإعادة صياغة الهوية السودانية. يمكن للموسيقى الشعبية، والمسرح الجامعي، والأفلام الوثائقية، والمعارض الفنية أن تصبح جسورًا للوحدة والمصالحة.
الخاتمة
في بلد يشكل الشباب أكثر من 60% من سكانه، لا يمكن تجاهل طاقة الإبداع. يمنح الاقتصاد البرتقالي السودان فرصة نادرة لإعادة البناء على أسس جديدة ليست من الأسمنت والطرقات فحسب، بل من الأفكار والخيال والهوية. لم يعد الإبداع ترفًا ثقافيًا بعد الحرب؛ بل صار حجر أساس لإحياء السودان ورسم مستقبله. لقد لم تُعطّل الحرب الأخيرة المؤسسات التعليمية والثقافية فحسب، بل أصابت ذاكرة السودان الحضارية نفسها. فقد تعرض المتحف القومي لنهب ممنهج، وهُرّبت قطع أثرية لا تُقدّر بثمن إلى الخارج. وتعرضت متاحف أخرى في العاصمة للتخريب، فحُطمت مجموعاتها وسُرقت ودُنّست. هذه الجريمة الثقافية تضيف جرحًا جديدًا لهوية الأمة، وتؤكد أن إعادة الإعمار لا بد أن تشمل أيضًا حماية التراث وصون الذاكرة الجمعية.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة