بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي
وزير المالية والتخطيط الاقتصادى الأسبق
المدير التنفيذي، منتدى دراسات وابحاث التنمية

مقدمة:

توضح تجربة السيد الصادق المهدي فى رئاسته الأولى فى ذلك الزمان الباكر من عمر الدولة السودانية الحديثة كيف أن إخفاق النُخب السياسية في استثمار اللحظة التأسيسية بعد ثورة أكتوبر أدى إلى ترسيخ الاعتماد على (أو الاحتباس فى) مسارٍ مأزومٍ، تجسد في الحلقة المفرغة من الشمولية والانقلابات والحروب الأهلية. من منظور التوازن الاجتماعي، فإن السودان خسر فرصة تاريخية لتحقيق استقرار سياسي وتنمية اقتصادية عبر مشروعٍ وطنيٍ جامع.

من أجل الضبط المفاهيمى وبناء إطار تحليلي منهجي، علينا تعريف مفهومى “التوازن الاجتماعى ” و “الاعتماد على المسار” في الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بصورة عامة.

التوازن الاجتماعي :(social equilibrium) يشير إلى حالة من الاستقرار النسبي في مجتمع تتوازن فيه المؤسسات والأعراف وعلاقات القوة بطريقة تحافظ على النظام الاجتماعي وتقلل من الصراعات المزعزعة للاستقرار. وهذا لا يعني بالضرورة غياب التغيير أو التوتر، بل يعني أن القوى المختلفة (السياسية والاقتصادية والثقافية والجهوية والاثنية وغيرها) تتوازن فيما بينها بشكل كافٍ لتمكين المجتمع من العمل وتجديد نفسه. وبالتالي، فإن التوازن الاجتماعي هو توازن ديناميكي بين القوى المجتمعية(1و 2). فى هذا السياق، هناك نوعين من التوازن الاجتماعى:

• التوازن الاجتماعي ”الجيد“ هو التوازن الشامل والمستقر الذي يحافظ على السلام والتنمية والشرعية السياسية والاقتصادية معاً.
• التوازن الاجتماعي ”السيئ“ هو توازنٌ قمعىٌ إقصائيٌ، فاقدٌ للشرعية، أو يحظى ببعض الشرعية لكنه هشاً غيرَ مستقر. التوازن القمعى الإقصائي يظل مستقراً نسبياً حتى يتسنى الخروج منه الى توازنٍ حميد (على سبيل المثال، نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا أو الأنظمة الاستبدادية طويلة الأمد، مثل نظام الإنقاذ في السودان).

الاعتماد على المسار :(Path Dependence) يحتل هذا المفهوم مكانة مركزية في العلوم الاجتماعية لفهم كيف تحدد القرارات المبكرة في اللحظات التأسيسية اتجاه التطورات المستقبلية، بحيث يصبح تغيير المسار لاحقاً بالغ الكلفة والصعوبة. وهي تعني أن النتائج الحالية والمستقبلية تعتمد بشكل كبير على تسلسل الأحداث الماضية، وليس فقط على الظروف الحالية. يمكن للأحداث الصغيرة أو حتى العشوائية في مرحلة مبكرة أن تضع النظام الاقتصادى أو الحالة الاجتماعية المعينة على مسار يصبح معززاً لذاته، مثلاً كنتيجة للانغلاق المؤسسي.
يعزز مفهوم الاعتماد على المسار مفهوم التوازن من خلال إظهار أن اقتصاداتٍ أو مجتمعاتٍ ذات خصائصٍ متشابهةٍ فى مرحلةٍ تأسيسةٍ مبكرة يمكن أن ينتهوا إلى “نقاط استقرار” مختلفة جداً اعتماداً على الظروف التاريخية. فمثلاً، فى أدبيات التنمية الاقتصادية، هناك مقارنات شائعة بين بعض الدول الأفريقية ورصيفاتها الآسيوية من حيث تماثل المؤشرات الاقتصادية عند استقلال هذه الدول فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، لكن لأسباب تاريخية تتعلق بالاختيارات المؤسسية والسياسات استطاعت الدول الآسيوية الوصول الى توازن نهضوى مستدام بينما معظم الدول الأفريقية تراوح مكانها وظلت محتبسة فى مسار مأزوم من التخلف الاقتصادى وعدم الاستقرار السياسى.

أولاً، السودان كحالة للتوازن “السيئ” والاعتماد على المسار:

في إطار التوازن الاجتماعي، يقدم السودان مثالاً نموذجياً عن كيفية بقاء المجتمعات حبيسة ”توازن سيئ“ وكذلك “الاعتماد على المسار” المأزوم” الذى بدأ من “مرحلة التأسيس” (استقلال البلاد فى العام 1956) كنتيجة لاختيارات غير موفقة اعتمدتها نخبة الآباء المؤسسون، مثل عدم التوافق على الحكم الذاتى لجنوب السودان؛ اتباع التنافس الانتخابى الصرف فى سياق النظام البرلمانى بالرغم من عدم مواءمته مع خصائص المجتمع السودانى الجهوية القبيلية وتخلف الاقتصاد السودانى؛ تسييس القوات المسلحة واستخدامها كأداة من طرف القوى السياسية؛ تعثر المشروع التنموى …الخ. لهذا وجدت البلاد نفسها فى “توازن سيئ” متطاول من الديكتاتوريات العسكرية والحكومات البرلمانية الهشة، قصيرة العمر. وهو توازن مستقر، فقط بسبب تكالب عوامل “الاعتماد على المسار” والتعزيز الذاتى للقوى المدمرة مع بعضها البعض.

فقد أعادت الأنظمة الشمولية في السودان انتاج نفسها فى سياق متصاعد من الاستبداد والفساد بلغ ذروته عند وصول نظام الانقاذ للسلطة. ففى هذا النظام تقاطعت المنظومة القيمية المتهافتة المستندة الى “فقه التغلُّب” والتوظيف الفئوى الاقصائى للدين الحنيف مع المشروع البرامجى “للتمكين” و “سوق المال السياسى”(3) لانتاج توازن مجتمعىسياسىاقتصادى بالغ السوء، لم تشهد له البلاد مثيلاً من حيث استشراء الفساد وتوحش الاستبداد وكذلك هشاشة الدولة لدرجة التفريط فى السيادة الوطنية ومقدرات البلاد ووحدتها الترابية. التوازن الاجتماعى لنظام الانقاذ هو أيضاً بمثابة “توازن انتهازى:opportunistic equilibrium “، ففي تحليله للمجتمعات المتأثرة بالنزاعات والحروب الأهلية أو تلك التى ترزح تحت أنظمة “كليبتوقراطية” (تجمع ما بين الفساد المؤسسى والاستبداد)، أشار بروفيسور بول كولير أستاذ الاقتصاد الذائع الصيت بجامعة أُكسفورد(4) بأن الجمهور فى هذه المجتمعات يواجه في كثير من الأحيان المفاضلة بين سلوك البحث عن الريع السريع، بما ذلك عن طريق الأنشطة الطفيلية من جهة والنشاط الاقتصادي المنتج على المدى البعيد، من جهة أخرى. الا أن الزبائنية السياسية وانهيار المعايير والكوابح المؤسسية والاجتماعية فى مثل حالات هذه المجتمعات المأزومة ترجح كفة السلوك الانتهازى، والذى يمكن عن طريق التراكم والصيرورة الزمنية أن يعزز توازناً اجتماعياً انتهازياً، بدلاً عن التوازن الاجتماعى الحميد الذى يحقق النمو طويل الأجل. هذه المقاربة يمكن أن تفسر استمرار العقلية الريعية للنظام البائد حتى بعد فقدان الريع النفطى واستمرار الاعتماد على ريع الذهب، بدلاً عن انتهاج سياسة تنموية لتنويع قاعدة الاقتصاد وتحديث الزراعة السودانية ومواردها المتنوعة والهائلة.

للأسف، حتى بعد ثورة ديسمبر العظيمة وتضحيات الشباب السودانى الجسام، تواصلت الدوامة العدمية بمحاولة اعادة انتاج ذات المشروع ” الانقاذى” فى شكل توازن دموى أكثر ايلاماً وسوءاً بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر وهذه الحرب الوحشية التى اضحت تشكل تهديداً وجودياً حقيقياً لبقاء السودان كوطن وشعب.

ثانياً: فرصة التوازن الاجتماعي “الحميد” واللحظة التأسيسية بعد ثورة أكتوبر

برزت رئاسة الإمام الصادق المهدي الأولى (19661967) كواحدة من تلك اللحظات التأسيسية الحاسمة التي كان يمكن أن تعيد صياغة المشروع الوطني على أسس جديدة. بعد ثورة أكتوبر 1964، وجد السودان نفسه أمام لحظة تأسيسية نادرة لإعادة بناء مشروعه الوطني على أسس ديمقراطية وتنموية. في تلك اللحظة قدم الصادق المهدي رؤيته حول ضرورة توسيع قاعدة الحكم عبر حكومة قومية، وصياغة دستور دائم، وحل قضية الجنوب على أساس الحكم الإقليمي. هذه المقترحات كانت بمثابة خيارات مسار بديلة كان يمكن أن تغير اتجاه التاريخ السوداني. يحمل مشروع الصادق المهدي في الستينيات ملامح واضحة نحو بناء توازن اجتماعي جيد، يستوعب التنوع الإثني والديني ضمن إطار وطني جامع يربط بين الأصالة والحداثة:

• مصالحة وطنية شاملة: استهدفت تجاوز الانقسامات الحزبية والجهوية عبر لقاء وطني واسع.
• حل سلمي لقضية الجنوب: اعتماد نظام الحكم الإقليمي بدلاً من منطق الحرب والمواجهة.
• شرعية اقتصادية: إصلاح النظام المالي والضريبي، وتوسيع قاعدة التنمية عبر الزراعة والتحول الصناعي.
هذه الأجندة كانت محاولة لبناء عقد اجتماعي يوفر “تقنية التزام” مؤسسية (commitment technology) لتنسيق المصالح المتعارضة، وتعزيز الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع. التعاون السياسي من طرف الطبقة السياسية وقتذاك حول هذه الأجندة كان يمكن أن يرسخ توازناً اجتماعياً مستقراً، شبيهاً بما حققته دول أخرى مثل بلدان الشمال الأوروبي أو الدول الآسيوية في مراحل لاحقة.
• على المستوى السياسي: كان من الممكن تثبيت دستور دائم لمنع الانقلابات العسكرية وتعزيز الشرعية المؤسسية للنظام الديمقراطى.
• على المستوى الادارى ومستويات الحكم: كان الحكم الإقليمي سيمنح الجنوبيين شراكة حقيقة فى ادارة شئونهم، مما يقلل من نزعات الانفصال والحروب الأهلية. كذلك فان النظام الادارى اللامركزى كان سيساهم فى تعزيز المبادرات الاقليمية فى التنمية وتعزيز المشاركة الواسعة للأقاليم فى ادراة شئون البلاد فى كل أنحاء السودانً.
• على المستوى الاقتصادي: تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والتخطيط الاقتصادى فى اطار برنامج متفق عليه بواسطة حكومات وحدة وطنية فى ذلك الزمان الباكر كان يمكن أن يحدث تحولات تنموية كبرى تكافح الفقر والتفاوت الرأسى الطبقى والأفقى الجهوى والأثنى، وكذلك تُسرِّع عملية بناء وتوسُّع الطبقة الوسطى، مما سيؤدى لاستدامة الديمقراطية بحسب نظرية “الحداثة” (Lipset, 1959) (5).
• على مستوى السردية الوطنية: كان من الممكن بناء مشتركات وطنية جامعة ذات مصداقية تستوعب التنوع وتمنح السودان فرصة للخروج من دوامة “المتلازمة السودانية” (ديمقراطية هشة، انقلاب، ثورة شعبية، انقلاب وشمولية، ثم ثورة جديدة … وهكذا دواليك).

ثالثاً، خاتمة

توضح تجربة الصادق المهدي الأولى كيف أن إخفاق النخب السياسية في استثمار اللحظة التأسيسية بعد ثورة أكتوبر أدى إلى ترسيخ الاعتماد على مسار مأزوم، تجسد في الحلقة المفرغة من الشمولية والانقلابات والحروب الأهلية. من منظور التوازن الاجتماعي، فإن السودان قد خسر فرصة تاريخية لتحقيق استقرار سياسي وتنمية اقتصادية عبر مشروع وطني جامع.
تبقى العبر والدروس المستفادة بأن التوازن الاجتماعي الجيد لا يتحقق بالبرامج وحدها، بل بتوافق النخب السياسية والمجتمعية حول مشروع وطني مشترك. إن استعادة روح ثورة ديسمبر المجيدة يتطلب أولاً التوافق الوطنى العريض والعمل الدؤوب لنزع شرعية هذه الحرب وانهائها بأسرع ما يمكن ومن ثم يجب السعى لبناء توازن اجتماعى حميد والتموضع فى مسار مستدام. برأى أن علينا فى هذا السياق التأمل والتدبر الجاد فى جوهر أجندة الإمام الصادق المهدي فى رئاسته الأولى: مصالحة وطنية شاملة، عقد اجتماعي جامع، وشرعية سياسيةاقتصادية مزدوجة، تلبى تطلعات أهل السودان بكافة أطيافهم ومكوناتهم. بذلك فقط يمكن للسودان أن يتحرر من أسر المسار المأزوم، ويؤسس لتوازن اجتماعي مستقر يضع حدّاً للمتلازمة التاريخية المدمرة.
__________________________________
(1) على سبيل المقارنة، في الاقتصاد التوازن هو نقطة استقرار مستمدة من تقاطع الخيارات المؤسسية والسياسوية مع القيود الملزمة “لعقلنة” هذه الخيارات (مثل توازنات الاقتصاد الكلى). في المجتمع، التوازن هو حالة استقرار نوعية أوسع نطاقاً تنشأ عن توازن القوى السياسية والاجتماعية والثقافية. الصلة بينهما هي صلة مفاهيمية: كلاهما ينطوي على حالة تتعارض فيها القوى المتنافسة مع بعضها البعض لإنتاج الاستقرار. ولكن في حين أن الاقتصاد، خاصة بعد بول سامويلسون (Paul Samuelson)، شهد تقنين التوازن بمعادلات ونماذج رياضية، يظل التوازن الاجتماعي أكثر تفسيرية، مستنداً إلى التحليل التاريخي والمؤسسي.
(2) كتب البروفيسور بول سامويلسون، الحائز على جائزة نوبل الثانية في الاقتصاد عام 1970، كتاباً رائداً في عام 1947 بعنوان: أسس التحليل الاقتصادي: Foundations of Economic Analysis، والذي أعطى مفهوم ”التوازن الاقتصادي“ شكلاً رياضياً حديثاً من خلال توطين نماذج تحليل توازنات “الميكانيكا” و“الديناميكا الحرارية” فى علم الفيزياء وقد أدخل أساليب (المعادلات التفاضلية، تحليل الاستقرار … الخ.)، مما حوّل الاقتصاد إلى علم متخصص في نمذجة التوازن الدقيق، أسوة بعلوم الرياضيات والفيزياء.
(3) ووفقاً لبروفيسور أليكس دي وال، الباحث والخبير فى شئون القرن الأفريقى، فإن “السوق السياسي” هو “نظام حكم يدار على أساس المعاملات الشخصية التي يتم فيها تبادل الخدمات السياسية والولاءات مقابل مكافأة مادية بطريقة تنافسية. يساوم الحاكم أعضاء النخبة السياسية على المبلغ الذي يحتاج إلى دفعه نقداً أو من خلال الحصول على موارد مربحة أخرى مثل العقود مقابل دعمهم له. وهم يمارسون الضغط عليه باستخدام قدرتهم على تعبئة الأصوات، أو حشد الجماهير، أو ممارسة العنف الضار” :
https://worldpeacefoundation.org/wpcontent/uploads/2024/03/SudanApoliticalmarketplaceanalysisfinal20190731.pdf
(4) أنظر كتاب بروفيسور كولير المشهور ” المليار الأدنى”The Bottom Billion
https://en.wikipedia.org/wiki/The_Bottom_Billion?utm_source=chatgpt.com

(5) Lipset, Seymour (1959), ‘Some Social Prerequisites of Democracy: and Economic Development and Political Legitimacy’, American Political Science Review, 53.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.