أتساءل: متى تبدأ السينما بحضورها الذاتي؟ وما خلفية هذا الزخم الذي يقلب السرد ويجعل الشاشة تتحدّث عن نفسها؟ وهل تستطيع الكاميرا أن ترى نفسها حقًا أم تكتفي بعكس العالم من حولها؟ وهل يستطيع الفيلم أن يعترف بكونه فيلمًا دون أن يفقد سحره؟ ينهض هذا الموضوع على فكرة سينما الفيلم داخل الفيلم، أو السينما داخل السينما، وهو مسار نقديّ يصدح بصوت الذات، ويخترق جدار الشاشة، ويخلق توترًا بين الحقيقة والمشهد.

ويتحوّل التمثيل في هذه السينما إلى حقيقة عندما يصبح صانع الصورة بطلها، والمخرج جزءًا من الحكاية، بتعبير المخرج غودار: “كل فيلم له بداية ووسط ونهاية، ولكن ليس بالضرورة بهذا الترتيب”، وبدعوته إلى هدم المعبد السردي وإعادة بنائه من الداخل.

وتُصوّر سينما داخل السينما هذا الانهيار المقصود، وتُعرّف السينما عن نفسها داخل النص، تُمسك بالكاميرا وهي تكتب وترسم وتخطئ وتعيد. وتتوالد الحكايات داخل الحكاية، وتتكلم الشخصيات عن وجودها وتتحرر من وهم التمثيل. وتُحوّل هذه السينما شاشة العرض إلى مرايا تتقاطع فيها النظرة الفنية مع الوعي الذاتي، وتنتمي إلى فضاء ما بعد الحداثة، وتتبنى السؤال بدل الجواب، وتطرح شكوكًا حول معنى السرد وجدوى الصورة؛ وتمنح المتلقي دورًا جديدًا وتجعله شريكًا في تفكيك الحكاية لا مجرد متفرج، وتعيد اختراع الحلم وتُظهِر ما كان خفيًا وتوقظ السينما من غفلتها.

الصورة التي تلتهم نفسها.. حين تتحول السينما إلى موضوع سينمائي

يسقط الخطّ السردي الواضح داخل هذه السينما، وتعلو طبقة اللعب على المستويات السردية. لا نص قصصي صارم هنا، مجرد تقاطعات، انكسارات، مرآة في مرآة، كاميرا ترى نفسها.

من هذه الرغبة تأتي الإشكالية المركزية: كيف يُبقي الفيلم توتره الدرامي عندما يعترف بلا توقف بأنه فيلم؟ هل ذلك تمرين فكري بعيد، أم تساؤل وجودي عن طبيعة الفن ذاته؟ في أدب الكاميرا تصبح الخلفية فلسفية وجمالية ووجودية، في زمن يبحث الفيلم عن حرفيته، فيعيد تركيب النص، الصوت، الصورة، والممثل ليعيد طرح أسباب وجوده.

في مثال حي، فيلم “ثمانية ونصف” (1963)، للمخرج الإيطالي فيديركو فيليني، تتحوّل فيه الكاميرا إلى ذاكرتك الحائرة، تلتقط المؤثر، تقرّب الداخل من الخارج، تجد المخرج في صراعه الإبداعي يحاول صياغة الحكاية، لكنه يغرق في أحلامه؛ صوّره فيليني ليُظهِر انهيار الحكاية نحو مونولوغات داخلية، نحو غرفة الذات المبدعة. ولا يمثل الفيلم سردًا؛ هو تفتّق بصري عن هشاشة الإبداع.

ينتقل معنا هذا الأسلوب في سينما المخرج فرنسوا ترافو الليل الأمريكي (La Nuit Américaine فرنسا 1973 1974 وفاز بالسعفة الذهبية 1974) حيث نرى الفيلم يُصوّر على الشاشة، ونشهد الفوضى خلف الكواليس، وضياع النص، وتمزّق العلاقة بين الممثل والمخرج. وتلتفت الكاميرا إلى نفسها، وتلتقي بالميكروفون، وتبرز الإطار المفتوح، لا إحكام. في هذه المسرحية السينمائية نختبر أمنية الفيلم: أن يكون حلمًا حيًّا، حاضراً رغم الانكسار، رغم ورق النص البصري المتناثر.

وامتدادًا، نصل إلى فيلم “تأقلم” (Adaptation الولايات المتحدة الأمريكية 2002 إخراج سبايك جونز)، ذلك الفيلم الذي يصوّر كاتب سيناريو يكتب عن كاتب سيناريو يكتب عن كاتب سيناريو، في انعكاس سردي مزدوج، تُفلت فيه الحكاية وتَأنس إلى ملالٍ داخلي. ويعيد الفيلم تركيب كلمات المؤلف نفسه داخل نصّه، ويتحرك على دهاليز الوعي والأطروحة؛ وهنا تطلق السينما حرفها في وجه لعبة النصوص.

وأمامنا كذلك “المدينة المجازية، نيويورك” (Synecdoche, New York الولايات المتحدة الأمريكية 2008 إخراج تشارلي كوفمان) حيث تنهار حدود الزمن والذاكرة، فيكون المسرح مصغرًا للحياة، والمخرج أمام لانهائية من النسخ عن ذاته. ويصنع المخرج الفيلم كمرآة تهشّمها الحكاية نفسها، إذ يتساءل: هل أنت أنت، أم مجرد مشهد يراوده سؤال الهوية؟.

ويتوهّج الصوت في فيلم “الرجل الطائر” (Birdman الولايات المتحدة الأمريكية 2014 إخراج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو) حين يذوب المسرح في الخارج، والحقيقة في المسرح. ويحكي الفيلم عن ممثل يشدو حديثًا مع صوته الداخلي، في حدود مشابهة جداً لما يحلو للحلم أن يصطاده. يقول البطل: “الشهرة مثل سرطان يتفشّى في الجسد”، فيقفز الصوت إلى داخل الصورة. ولم تعد الفنانة ترى الواقع، بل تصوره كذلك.

سينما ترى نفسها.. وعي الصورة وخيانة الحكاية

في جوهر هذه السينما تتلاقى الخلفيات الثقافية والفلسفية: شك الإنسان في الحكمة الكبرى، في النص المكتمل، في الرواية النهائية التي تصوّر العالم. وتصبح هنا الفلسفة داخل الفيلم، لا خارج النص؛ الحكاية ليست بعد الآن محكية، وإنما يُعاد تشكيلها بسؤالٍ عن فعل الحكي نفسه. ويشهد البُعد الجمالي تحولًا؛ فالكاميرا لم تعد ترصد الحدث فحسب، بل ترصد نفسها، تُظهر العدسة، تدعوك للتمعّن في اللعبة، تدخلك في البنية، تسألك: هل أنت المشاهد، أم جزء منك أنت هذا الفيلم؟.

ويدور هذا الأسلوب عبر أسماء تشكّل خطوطه: المخرجون جانلوك غودار، فيلليني، ترازو، تشارلي كوفمان، أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، مؤسسون لجملة تنقّب في جسد السينما، لا لتعرّيها فقط، بل لتؤكد وجودها كمتنٍ مرّ بعداته متشظية. هذا النثر السينمائي لا يصنف بسهولة، فهو يتخبط بين دراما نفسية، وسخرية ما بعد حداثية، ونقد ذاتي، وملحمة وجودية، ومزج بالغناء البصري.

تطوّرت هذه السينما داخل السينما، جاءت بالتوازي مع التحولات التقنية؛ إذ تحولت السينما إلى مادة خام قابلة للفصل، للقطع، للتركيب، لكل طمسٍ مقصود، وكأن الفيلم يبني نفسه داخل نفسه، ويطلب منك أن تراه كمخطط فكري قبل أن يكون سردًا جاهزًا، دون أن تضعه في خانة فنية واحدة، فهو لا يحتاج إلى تسلسل، وإنما إلى متاهة؛ المطلوب قراءة الإشارة في البنية، وليس في الخطابة السينمائية.

هل هو ترف فكري؟ ربما. أم احتياج وجودي؟ هنا، الفيلم داخل الفيلم يخاطبك: تفتت اللعبة كي تفهم لماذا نلعبها. في فضاء السينما هذه لا توجد نهايات، مجرد فعل الاستمرار. نسأل دومًا: ما السينما؟ وما الفيلم؟ وما المشاهد؟ وما الحكاية؟ وهكذا تسبح الكاميرا في ذهنها، مثل صدى لا يعود سوى لنفسها.

إن قلت لك إن هذا الشكل يشبه مطرقة تُسقط الستار أكثر منها مرآة فإنك لن تخطئ، لأن ضربته تهدف إلى تشييد سؤال جديد، وليس بناء سردٍ جاهز. وتعيد السينما هنا اختراع نفسها عندما تنطق عن نفسها.

العدسة التي تحلم.. الذات والخيال في السينما داخل السينما

تتجلى هوية سينما داخل السينما من خلال وعيها العميق بذاتها، إذ تنقلب على السرد الخطي التقليدي وتنحاز إلى البنية المفتوحة التي تتيح للحكاية أن تتنفس خارج حدود التتابع الزمني. ولا تكتفي هذه السينما بسرد القصة، بل تقاطعها، وتعيد تشكيل المشهد ثم تفككه أمام أعيننا، كاشفةً عن أدوات السرد وآلية التمثيل، ومندمجةً بين الواقع والخيال، ومستدعيةً ذاتها إلى قلب الحكاية؛ وهي سينما لا تستخدم الخطاب السينمائي كوسيلة لنقل المعنى، بل تجعله موضوعًا للنقاش، وتلتفت إلى نفسها لتسأل: ماذا يعني أن نروي؟.

في هذا النوع من السينما لا يتقدّم البطل بوصفه شخصية داخل الحكاية فحسب، وإنما إلى ككائن واعٍ بسرده، يعيش القصة ويكتبها ويتأمل شروط وجوده داخلها، ويطرح حساسيته كفنان أو ممثل أو مخرج أو حتى كمتفرج، ويتعامل مع هويته التي تتشكل تحت سلطة الكاميرا، ويتردد في اتخاذ القرار، يتأمل مشهده، يتحدث عن هشاشته، ويواجه النص المكتوب رافضًا أن يُكتب له مصيره؛ ويأخذنا إلى خلف الكواليس ليكشف الماكنة التي تصنع الوهم، ويمثّل وهو يعلم أنه يمثّل، فيتحول إلى مرآة تعكس قلق الإنسان أمام أدواره اليومية.

هذه السينما لا تنحصر في الذات الفنية، بل تتجاوزها لتتناول قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية، وتكشف تحوّل المخرج إلى سلعة والمنتج إلى حاكم، وتفضح العلاقة بين السلطة والمشهد، وتعلّق على الصناعة بوصفها محرّكًا للفن، وتتوسل الرمز لتكشف ما وراء القناع، وتغوص في النفس حين تُظهر هشاشة البطل أمام عبء التكرار والهوية والصورة؛ كما ترصد النقد ذاته كجزء من التجربة، حين يتحوّل الفيلم إلى تحليل لفعل التلقي، ويصبح المتفرج جزءًا من اللعبة لا مجرد متلقٍ سلبي.

في فيلم “ثمانية ونصف” لفيديريكو فيليني يتجول البطل في ذهنه كمن يتجول في مشاهد مؤجلة، يفشل في إنهاء فيلمه لأن الذاكرة لا تنغلق، ويعبر خلال أحلام الطفولة والنساء والخيالات والدين، قائلاً: “أردتُ أن أقول شيئًا صادقًا ولكن لا أعرف من أين أبدأ”. أما في فيلم “الرجل الطائر” لإناريتو فينسحب البطل من السينما إلى المسرح، يصارع صورته القديمة كبطل خارق، ينفجر الصوت الداخلي، ويتداخل العرض مع الواقع. وفي فيلم “تأقلم” للمخرج سبايك جونز تتحول الكتابة إلى فيلم، ويصير المؤلف هو الحكاية، يتقاتل مع نفسه ليكتب نفسه. أما في “المدينة المجازية، نيويورك” فتتسع المدينة داخل المسرح، ويتكرر العرض، ويتآكل الزمن، ويضيع المخرج بين الشخصيات والنسخ والصدى.

تفتح هذه الأفلام بابًا للسينما كي تسأل عن نفسها، وتمنح الشاشة القدرة على التأمل في ذاتها، وتعيد للمتفرج موقعه بوصفه كائنًا يشارك في اللعبة؛ تكشف أن الكاميرا لا تنقل العالم فحسب، فهي تصنعه، وتقول في كل مرة تقول السينما عن نفسها إنها كيان حيّ يفكر ويحلم ويتألم، وتدعونا إلى التمعن في الطريقة التي نرى بها لا في ما نراه، وتعيد تعريف العلاقة بين الصورة والمعنى، بين الحكاية والراوي، بين الفن والمتلقي.

فقد كتب ذات مرة الناقد أندريه بازان: “حين تُصوَّر الكاميرا وهي تبحث عن الحقيقة تكشف لنا أن الحقيقة ذاتها وهم نحاول الإمساك به”. وتعيدنا هذه السينما إلى لحظة الخلق الأولى، تُرجع السينما إلى قلبها، وتُحوّل المشهد إلى سؤال، وتمنح الفنّ روحه؛ إنها لا تفتح الباب كي نخرج، بل كي ندخل أعمق، حيث لا تعود الصورة نهاية، بل بداية أخرى، وحيث يصبح فعل الرؤية نفسه موضوعًا للتأمل، لا مجرد وسيلة لفهم العالم.

المصدر: هسبريس

شاركها.