زهير عثمان حمد

 

زهير عثمان حمد

يمثل سد النهضة الإثيوبي منذ أكثر من عقد قضية أمن قومي مصري من الدرجة الأولى، إذ تعتمد القاهرة على مياه النيل بنسبة تتجاوز 97٪ من احتياجاتها المائية. ومن هنا، فإن أي ترتيبات تخص السد من دون حضور مصري تُعد خرقًا لمبدأ التعاون التاريخي وتقويضًا لحقوق مائية تراها القاهرة مكفولة باتفاقيات سابقة. في هذا السياق، جاء تسريب موقع قناة الجزيرة الإخبارية لوثيقة فنية موقعة بين السودان وإثيوبيا بشأن قواعد ملء وتشغيل السد ليضع مصر أمام معادلة جديدة، تَظهر فيها وكأنها خارج حسابات إدارة النيل الأزرق، وهو ما اعتبرته دوائر استراتيجية في القاهرة تهديدًا لمصالحها المباشرة وتهميشًا لدورها كفاعل إقليمي مركزي.
رد الفعل المصري المتوقع في المرحلة المقبلة يتراوح بين الموقف الدبلوماسي العلني والممارسات الضاغطة غير المباشرة. فمن المرجح أن تُعلن القاهرة رفضها لأي اتفاق ثنائي لا يتضمن ضمانات مصرية واضحة، وأن تبادر إلى إرسال رسائل سياسية مباشرة إلى الخرطوم تدعوها إلى العودة إلى مفاوضات ثلاثية تحت مظلة الاتحاد الأفريقي أو آلية دولية أوسع. غير أن المسألة لا تقف عند حدود البيانات، إذ أن هذا التطور قد يفتح الباب أمام مراجعة شاملة للعلاقة مع القيادة السودانية الحالية. مصر لن تذهب إلى دعم انقلاب مباشر على الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لكنها قد تُعيد تقييم تحالفها معه إذا رأت أن سياساته تُضعف أوراق الضغط المصرية في ملف المياه، الأمر الذي قد يدفعها للتفكير في تقارب مع قوى بديلة داخل المؤسسة العسكرية أو بين الفاعلين المدنيين الأكثر توافقًا مع رؤيتها.
انعكاسات هذا التسريب لن تقتصر على المواقف السياسية بل ستمتد إلى ملفات التعاون الاقتصادي والأمني. فقد تعمد مصر إلى إبطاء مشاركتها في مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية داخل السودان، لتجعل هذه الملفات أداة مساومة مرتبطة بالمياه. كما يمكن أن تلجأ إلى نفوذها في الجامعة العربية ومجلس الأمن للضغط على الخرطوم أو لإحراجها أمام المجتمع الدولي، ما يفتح المجال لتسييس أكثر حدة للقضية.
أما في ما يخص الحرب الأهلية السودانية، فإن القاهرة تنطلق من معادلة مزدوجة: فهي لا تريد انهيار الدولة خوفًا من تدفق اللاجئين وتمدّد الفوضى الأمنية إلى حدودها الجنوبية، لكنها في الوقت ذاته لن تسمح بأن يتحول دعمها العسكري أو السياسي إلى أداة تُستخدم ضد مصالحها في مياه النيل.
من هنا يُتوقع أن يُعاد توجيه الدعم المصري بحيث يخدم غايتين في آن: منع الانهيار الكامل للدولة السودانية، وضمان عدم خروج الخرطوم من الاصطفاف المائي مع مصر. بل إن ملف إعادة الإعمار مرشح لأن يتحول إلى ورقة ضغط استراتيجية، حيث تشترط القاهرة مشاركتها الفنية والمالية مقابل التزامات واضحة في قضية السد. حتى الدعم الإنساني، الذي يبدو بعيدًا عن السياسة، قد يوظف كأداة ناعمة لتعزيز الحضور المصري وسط المجتمع السوداني.
التسريب أيضًا أعاد فتح النقاش حول التحالفات الإقليمية. فالتقارب السودانيالإثيوبي يضعف بطبيعته الدور المصري في القرن الأفريقي، ويدفع القاهرة إلى محاولة ربط ملف سد النهضة بملفات أخرى مثل قضية الفشقة والحدود الشرقية والأمن الإقليمي، لإبقاء الخرطوم بحاجة إلى الغطاء الاستراتيجي المصري. وفي الوقت نفسه، قد تسعى مصر لتعزيز تحالفاتها مع جنوب السودان ودول حوض النيل الأخرى كأداة موازنة لأي اصطفاف جديد بين الخرطوم وأديس أبابا.
الأدوات التي يمكن أن تستخدمها القاهرة في هذه المرحلة تتوزع بين القوة الناعمة والقوة الاقتصادية. فهي تمتلك شبكة مؤثرة عبر الإعلام والجامعات والعلاقات القبلية الممتدة عبر الحدود، كما يمكنها توظيف أدواتها الاقتصادية بإعادة النظر في حركة التجارة والعمالة أو تجميد مشروعات الربط الكهربائي والطرق، لتصبح أوراق مساومة سياسية.
السيناريوهات أمام القاهرة تتراوح بين ثلاثة مسارات:
التصعيد الخفي عبر دعم قوى معارضة للبرهان من دون انقلاب علني وربما تعزيز نفوذ جماعات إقليمية مثل البجة لموازنة السلطة في الخرطوم؛ أو الدفع نحو العودة إلى المفاوضات الثلاثية تحت شروط جديدة تُعيد لمصر موقعها؛ أو أخيرًا، التصعيد الإقليمي عبر تحالفات موازية أو تدويل القضية ورفعها إلى محكمة العدل الدولية إذا شعرت أن التهميش قد صار نهائيًا.
أن تسريب الجزيرة لا يمثل مجرد إحراج دبلوماسي للقاهرة، بل جرس إنذار استراتيجي يدفعها إلى إعادة صياغة علاقتها مع السودان على أسس مغايرة. مصر لن تُغامر بانقلاب مباشر على البرهان، لكنها ستستخدم كل أدواتها الناعمة والصلبة لإجبار الخرطوم على العودة إلى الاصطفاف معها في ملف مياه النيل. العلاقة بين البلدين، التي كانت تقوم على شراكة أمنية تقليدية، تتحول تدريجيًا إلى علاقة مشروطة بالمياه والإعمار، حيث يصبح كل ملف تعاون رهينًا بالموقف السوداني من سد النهضة. وبهذا المعنى، تبدو القاهرة في طريقها إلى هندسة البيت السياسي السوداني من الداخل، لا عبر المواجهة الصاخبة، بل عبر التأثير الهادئ، المشروط، والمتعدد المستويات.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.