إبراهيم برسي

في تاريخ السودان الحديث يتبدى سؤال أساسي: لماذا فشل هذا البلد، الغني بالموارد والتنوع، في بناء مؤسسات راسخة منذ استقلاله في ١ يناير ١٩٥٦؟ الجواب يتوزع بين سرديات سياسية متنازعة، نخبة أدمنت الفشل، عسكر احتكروا السلطة والاقتصاد، وإملاءات إقليمية ودولية أعادت إنتاج الهشاشة. فالسردي هنا ليس مجرد حكاية، بل خطاب سياسيأيديولوجي يفرض نفسه على المجتمع، من الطائفية الدينية إلى القومية إلى شعارات الإسلام السياسي، بينما المؤسسي هو بناء الدولة على قواعد القانون والمحاسبة وتداول السلطة.

مأساة السودان تكمن في أن السردي ظل دائمًا أقوى من المؤسسي، الشعارات أعلى من القوانين، والزعامات الفردية أثقل من المؤسسات. وبما يضيء الجذر البنيوي للمسألة، يذكّرنا د. عادل القصّاص بأن الاستقلال كان عمليًا “نهاية مرحلة وبداية مرحلة”، لا قطيعة مع الماضي؛ إذ إن السلطات التي ورثت الاستعمار لم تُشيِّد بنية سياسية راسخة، بل تحرّكت ضمن محدداتٍ صنعها المستعمر ووكلاؤه المحليون، فاستمرّت الهشاشة تحت لافتة السيادة الوطنية.

منذ الاستقلال انقسمت النخب بين دعاة الوحدة مع مصر بقيادة إسماعيل الأزهري والاتحاديين، وبين دعاة الاستقلال التام بقيادة عبد الرحمن المهدي وحزب الأمة. لم يرافق الاستقلال بناء مؤسسات قوية، فانقضّ الجيش على السلطة في انقلاب إبراهيم عبود في نوفمبر ١٩٥٨، ليفتتح دورة الانقلابات التي تكررت كحلقة مفرغة لا فكاك منها: ثورة أكتوبر ١٩٦٤، انقلاب جعفر نميري في مايو ١٩٦٩، قوانين سبتمبر ١٩٨٣ التي عمّقت الحرب الأهلية الثانية، انتفاضة أبريل ١٩٨٥، ثم انقلاب عمر البشير في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ الذي أدخل السودان في ثلاثة عقود من تمكين الجبهة الإسلامية. وفي ١١ أبريل ٢٠١٩ أطاح حراك ديسمبر الثوري بالبشير، لكن الشراكة الهشة بين المدنيين والعسكر انهارت بانقلاب عبد الفتاح البرهان في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، لتنفجر بعدها الحرب بين الجيش والدعم السريع في ١٥ أبريل ٢٠٢٣. كان كل انقلاب في جوهره انتصارًا للسردي على المؤسسي، وتكرارًا لنفس المأساة التي لم تُعالج.

نظام مايو (١٩٦٩١٩٨٥) لم يكن مجرد انقلاب أيديولوجي بقيادة نميري وحلفائه اليساريين والإسلاميين في مراحله المختلفة، بل كان لحظة فاصلة في ترسيخ القوة الاقتصادية للمؤسسة العسكرية. من إنشاء البنوك الزراعية والصناعية، وتوسيع قبضة الدولة على الشركات الكبرى، وتمكين شبكات القطاع العام المرتبطة بالجيش، بدأ العسكر يتحولون إلى لاعب اقتصادي لا يقل شأنًا عن دورهم السياسي. هذه المرحلة مهّدت لما سيتضخم لاحقًا في عهد البشير، لتصبح المؤسسة العسكرية دولةً داخل الدولة.

كما كتب د. منصور خالد في “النخبة السودانية وإدمان الفشل” فإن النخبة السودانية لم تتعلم من التاريخ، إذ أعادت إنتاج نفس الدائرة: انتفاضة، ديمقراطية هشة، انقلاب. الدكتور خالد الكِد بدوره أشار في كتابه “الأفندية ومفاهيم القومية في السودان” إلى أن طبقة المتعلمين ورثت عقلية استعمارية مركزية، ولم تطور مشروعًا وطنيًا مؤسسيًا. النخب، مدنية وعسكرية، ظلت أسيرة السرديات، عاجزة عن تحويلها إلى مؤسسات، وبقيت الديمقراطيات قصيرة العمر لأنها افتقرت إلى بنيات دستورية تحميها. كما أن د. عبد الله علي إبراهيم رأى أن “ثقافة السلطة” نفسها في السودان لا تميل إلى الحوار، بل إلى الإقصاء، مما يفسر هشاشة أي تجربة ديمقراطية.

الأحزاب التقليدية، الأمة والاتحادي، ظلت أسيرة الطائفية والبيوتات. الصادق المهدي والميرغني قادا أحزابهم بالوراثة أكثر مما قادوها بالبرامج، وتحولت مؤسساتهم إلى امتداد للبيوت الكبرى. أما الحزب الشيوعي فمثّل الصوت التقدمي المدافع عن العمال والمزارعين، من عبد الخالق محجوب الذي استشهد في يوليو ١٩٧١ بعد انقلاب هاشم العطا، إلى محمد إبراهيم نقد الذي ظل رمزًا للفكر الماركسي السوداني حتى رحيله.

لكن الحزب بعد فشل ما عُرف بـ“الثورة التصحيحية” في ١٩٧١ تعرّض لضربة قاسية فكريًا وتنظيميًا؛ فقد آلاف الكوادر، ودخل في حالة تدهور، ولم ينجح في بناء تحالفٍ يساري عريض أو جبهة مقاومة طويلة النفس. هكذا وجد نفسه خارج اللعبة الكبرى رغم صلابته الفكرية، فيما واصلت القوى التقليدية والعسكرية إعادة إنتاج الفشل.

وحين فشلت النخب الذكورية في حماية التجربة الوطنية، تقدمت النساء الرائدات بخطابٍ آخر أكثر شجاعةً وتجذرًا في الحياة اليومية. فاطمة أحمد إبراهيم دخلت البرلمان في ١٩٦٥، إحسان محمد فخري صارت أول قاضية في أفريقيا، وسعاد إبراهيم أحمد قادت اتحاد النساء السودانيات، وفي شكلٍ آخر من أشكال المقاومة كتبت ملكة الدار أول رواية نسائية سودانية بعنوان “الفراغ العريض”. لكن التيارَ النسوي نفسه لم يكن موحّدًا؛ فقد برزت لاحقًا د. فاطمة بابكر بتصوّر نقدي راديكالي، تؤسِّس تيارًا نسويًا داخل الاتحاد النسائي وخارجه، يرى أن أطروحات فاطمة أحمد إبراهيم كانت “محافظة” ومتصالحة مع البنى الذكورية أكثر من اللازم. هذا التنوّع في الرؤى النسوية عمّق الخطاب وأعطاه بعدًا اجتماعيًا وسياسيًا أشدّ جذرية. وحين حملت بعض النساء أقلامهن كما فعلت ملكة الدار، وحملت أخريات مسؤولية العمل العام مثل فاطمة وسعاد، كان هناك تيارٌ موازٍ صاغته الأغاني الشعبية على ألسنة البنات، فحوّلن اليومي إلى خطابٍ سياسي جمعي. لم تكن أغاني البنات مجرد طرب، بل أرشيفًا سياسيًا حيًا: من السخرية من السياسيين في الديمقراطية الأولى وفي إطار الصراع بين الختمية والأنصار نجد مثلًا: “عان عوينتو شوف دقينتو… سيدكم فلس باع جنينتو”، إلى الردود الطريفة التي حملتها نساء الاتحادي، وفي الديمقراطية الثالثة حين غنّت نساء الجبهة القومية: “يا الله انت حنين الجبهة خريجين، ما مهم سقوط ياسين…”. وتغنّت نساء الحزب الشيوعي: “ديامة يا صعبين… ديامة ناس فاهمين…”. وعلى هذا الخيط الممتدّ من اليوميّ إلى السياسيّ وصولًا إلى فضح عسكرة المجتمع في زمن الإنقاذ بأغنيات تمدح الضباط كـ “جنابو حياني بكابو”. وفي ثورة ديسمبر تحولت صورة الكنداكة إلى أيقونة عالمية للحرية والمقاومة. وكأن التاريخ كان يهمس بأن المؤسسية الحقيقية لا تبدأ من الدستور بل من جسد امرأة يرفض أن يُقصى.

لكن هذه الأصوات النسوية والشعبية، التي جعلت من الجسد والأغنية مساحة مقاومة، لم تكن تتحرك في فراغ. كانت تواجه منظومةً كاملة من العسكرة والاقتصاد الحربي الذي تمدّد في جسد الدولة. وعلى المسار الذي بدأ في مايو، لم يبقِ عهدُ الإنقاذ سوى أن يحوّل ذلك الترسيخ إلى اقتصاد ظلٍّ كامل: الجيش لاعب اقتصادي مباشر، والدعم السريع اقتصادٌ موازٍ ممسكٌ بالذهب.

ومع فقدان النفط بعد انفصال الجنوب في ٢٠١١ ظهر الذهب كوقود جديد، وسيطر محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقوات الدعم السريع على مناجم جبل عامر، فصار جيشًا موازيًا بموارده الخاصة. لم يكن الذهب مجرد معدن، بل خطابًا دمويًا صاغته الميليشيات على جسد الوطن. وهكذا تحولت حرب ٢٠٢٣ إلى صراع اقتصادي بقدر ما هي صراع على السلطة، بين جيشٍ يملك الشركات الرسمية وميليشيا تسيطر على الذهب وتدير شبكات تهريبٍ عابرة للحدود. لكن هذا التوصيف وحده لا يكتمل إن لم نرَ أن الحرب نفسها كانت امتدادًا لانقلاب الجيش على الحكومة المدنية الانتقالية في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، وهو انقلابٌ مهّد له الإسلاميون لقطع الطريق على التحول “المدني الديمقراطي”. ولأن الانقلاب لم يُسكت الشارع ولم يطفئ شعلة ديسمبر، لجأوا إلى الخيار الأكثر دموية: إشعال الحرب نفسها. بما يشبه ما تسميه بعض الأدبيات السياسية “الفوضى الخلّاقة”، غير أنّ نسخته السودانية كانت أكثر فجاجةً ولا إنسانية؛ فكانوا أول من أطلق الرصاصة الأولى، لا لمواجهةٍ عسكريةٍ بقدر ما كان لقتل الحراك الثوري وفتح الطريق أمام عودتهم.

هذه الحرب التي فجّرها الإسلاميون في ٢٠٢٣ لم تكن حدثًا طارئًا، بل امتدادًا لبنيةٍ عسكريةٍ تأسست منذ عقود. فمنذ تأسيس الكلية الحربية السودانية عام ١٩٤٨، صُممت لتخريج ضباطٍ ينفذون أوامر المستعمر. البريطانيون غرسوا الطاعة، والمصريون بعد ١٩٥٢ غرسوا فكرة الجيش المنقذ على شاكلة “الضباط الأحرار”. هكذا صار الانقلاب جزءًا من التكوين لا استثناء. دفعة ١٩٤٨ خرج منها ضباطٌ شاركوا في انقلاب ١٩٥٨، دفعة الستينيات خرج منها قادة مايو ١٩٦٩، ودفعة السبعينيات والثمانينيات خرج منها قادة انقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩. مصر نفسها لعبت دورًا مباشرًا: من قصف جزيرة أبا في أبريل ١٩٧٠، إلى دعم نميري في السبعينيات، إلى تدخلها في أزمات دارفور، ومشاركة وصولًا إلى الجنود المصريين الذين اعتقلتهم قوات الدعم السريع في قاعدة مروي في ٢٠٢٣. ولم يقتصر الأمر على الداخل وحده، بل وجدت هذه العقيدة العسكرية سندًا خارجيًا رسّخ هشاشتها وأبقاها رهينة الجوار.

الخارج كان حاضرًا دائمًا. مصر رأت السودان خزان مياه وحديقة خلفية ممتلئة بالموارد، وحارسًا مرتشيًا، ودعمت كل انقلابٍ يخدمها. الخليج استثمر في الأراضي والذهب وأرسل الجنود السودانيين إلى حرب اليمن بعد ٢٠١٥. تركيا وقطر دعمتا البشير ومن بعده الجيش بخطاب الإسلام السياسي، إيران أنشأت مصانع أسلحة فقصفتها إسرائيل ولا تزال تبيع طائراتها المسيّرة لطرفي النزاع، روسيا دخلت عبر فاغنر والذهب، الصين ربطت السودان باقتصادها عبر النفط واليورانيوم، والغرب فرض عقوباتٍ ثم قدّم وعودًا فارغة بعد ٢٠١٩. بهذه الخلفية البنيوية التي أُبقيت هشّة عمدًا، لم ير أحدٌ في السودان دولةً بقدر ما رأى موردًا. وهنا يحسن أن نستدعي ما قاله د. عادل القصاص: “السلطات السودانية الشمالية المركزية التي أعقبت الخروج المباشر للمستعمر لم تقم بتشييد بنية سياسية راسخة… بل ورثت نفس استراتيجيات الاستعمار الذي أعدّ وكلاءه المحليين مسبقًا، وحافظ على مصالحه عبرهم”. وإذا كانت هذه الملاحظة تؤطّر جذور الهشاشة منذ لحظة الاستقلال، فإن كلفتها ظهرت أوضح بعد ٢٠١٩: بيئةٌ مؤسسية رخوة تسمح بتدوير النفوذ الإقليمي والدولي على حساب التحول المدني.

في التجارب المقارنة تنعكس صورة مأزقنا: الجزائر أسيرة جيش وصي وديمقراطية مجهضة، جنوب أفريقيا تحولت عبر المصالحة والعدالة الانتقالية إلى مؤسسات راسخة، رواندا جعلت الذاكرة والعدالة سلاحًا للبناء بعد إبادة ١٩٩٤، وأمريكا اللاتينية كسرت دورة الانقلابات عبر دساتير جديدة كما في تشيلي والأرجنتين والبرازيل.

السودان يشبه هذه التجارب، لكنه بقي عالقًا لأنه لم يكتب عقدًا اجتماعيًا جامعًا. وكما قال فرانتز فانون: “إن الاستعمار يترك فينا آثارًا لا يمحوها الاستقلال، إلا إذا واجهناها ببناء مؤسسات تحفظ الحرية”.

السودان اليوم يقف على حافة الهاوية: حربٌ طاحنة، نزوح ملايين، وانهيار مؤسسات. لكن حتى في هذه اللحظة يظل الأمل قائمًا. التحول المؤسسي ممكن إذا فُكِّك الاقتصاد العسكري وأُخضع للرقابة، وُضع دستورٌ دائم يُكتب بالتوافق، فُتحت أبواب العدالة الانتقالية لكل الجرائم منذ ١٩٥٦، وأُشركت النساء والشباب في المؤسسات لا في الشعارات، ووُجد توازنٌ بين الداخل والخارج. وهنا تُستعاد خبرة “مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية” في يونيو ١٩٩٥، بما قرره من فصلٍ واضحٍ بين الدين والدولة، ومن تصورٍ لامركزي للحكم، ومن مرجعيةٍ حقوقيةٍ كونية؛ فدستورٌ علماني مرجعيته الأساس “المواثيق الدولية ذات الصلة” ليس ترفًا فكريًا، بل صمّام أمانٍ لتحويل الشعارات إلى قواعد مُلزِمة، ولجعل “تداول السلطة ديموقراطيًا” حقيقةً لا وعدًا.

وكما قال سارتر: “الحرية هي ما تفعله بما فُرض عليك”. السودان لم يختر الاستعمار ولا الانقلابات، لكنه قادرٌ أن يحوّل هذه المأساة إلى عقدٍ اجتماعي جديد. إن الأمهات اللواتي ودّعن أبناءهن على أرصفة الحروب، والنساء اللواتي غنّين للحرية في ديسمبر، هُنّ أول من يعرف أن السرديات تموت إن لم تتحول إلى مؤسسات.

المؤسسة الحقيقية ليست الجدران ولا المكاتب، بل هي الذاكرة وقد صارت قانونًا. وحين يتحول الدم إلى دستور، والعرق إلى برنامج، والحلم إلى واقع، عندها فقط سيخرج السودان من سردياته القاتلة إلى مؤسساته الحيّة. وإذا كان هذا هو المعنى العميق للمؤسسة، فإن تجربة السودان منذ ١ يناير ١٩٥٦ تكشف عكسه تمامًا: استقلالٌ بلا مؤسسات، ثوراتٌ بلا دساتير، وانقلاباتٌ بلا نهاية. لكن التاريخ لا يُكتب في خطٍ مستقيم، بل في دوائر تُكسر حين يجرؤ أحد على الخروج منها. اليوم، بعد حربٍ أخرى تعيد إنتاج الخراب، تبدو المفارقة أن الخلاص لا يأتي من السرديات الكبرى التي استنزفتنا، بل من التفاصيل الصغيرة: من قريةٍ تزرع رغم الحرب، من أغنية بنات تسخر من الجنرال، من قلمٍ يكتب دستورًا جديدًا. المستقبل ليس وعدًا مؤجلًا، بل فعل مقاومة ضد النسيان. وحين تُكتب هذه المقاومة في هيئة مؤسسات، لا في هيئة شعارات، عندها فقط سيتحول السودان من مأساةٍ متكررة إلى تجربةٍ إنسانية تستحق البقاء.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.