يمثل ترحيب الحزب الجمهوري السوداني بإعلان حكومة “تأسيس” الموازية خطوة لافتة في المشهد السياسي المضطرب، إذ يكشف عن مقاربة جديدة للشرعية السياسية في السودان، تتجاوز القوالب التقليدية، نحو فهم أعمق لديناميكيات
القوة وموازين النفوذ في مرحلة ما بعد الثورة.
هذا الموقف لا يعكس مجرد انحياز سياسي، بل يطرح رؤية تكتيكية تستشرف التحولات المحتملة، وتضع الحزب في موقع “القوة النقدية الداعمة” التي تحاول الجمع بين تأييد مشروط وحذر استراتيجي.
إعادة تعريف الشرعية في الدولة الهشة
يرى الحزب الجمهوري أن شرعية الحكم لم تعد تُقاس فقط بالدستور أو السلطة المركزية، بل بالقدرة على تمثيل المهمشين والاستجابة لمظالمهم. في هذا السياق، تتحول معادلة الحكم من سؤال “من يحكم؟” إلى “لماذا يحكم؟ ولمن يحكم؟”.
ترحيبه بحكومة “تأسيس” يُفهم كإقرار بدور القوى القادمة من الأطراف، التي عانت طويلًا من التمييز والإقصاء، ويمنحها نوعًا من الاعتراف السياسي في مواجهة السلطة الموازية في بورتسودان.
توازنات إقليمية جديدة
من زاوية جيوسياسية، يعكس الموقف إدراكًا لتحولات النفوذ في الإقليم. فبينما تراجع ثقل مصر والسعودية التقليدي، برزت قوى إقليمية جديدة تؤثر في الملف السوداني. الحزب الجمهوري يبدو واعيًا بأن تعدد مراكز القوى المحلية
قد يكون وسيلة لموازنة هذه التدخلات الخارجية، بدلًا من الارتهان لطرف واحد.
خطاب براغماتي أخلاقي
اللافت أن خطاب الحزب الجمهوري يجمع بين بعدين متناقضين ظاهريًا: المبادئ والبراغماتية. فهو يثني على ما تحمله وثيقة “تأسيس” من شعارات الوحدة والسلام ونبذ الكراهية، لكنه يتجنب تقديمها كخيار مثالي.
هذه البراغماتية الأخلاقية تعكس حرص الحزب على التمايز عن حكومة البرهان التي يتبنى خطابها الحرب والإقصاء، دون أن يسقط في فخ التبشير الأعمى ببديل جديد.
إدارة المخاطر: ثلاثة محاور أساسية
ترحيب الحزب لم يكن بلا تحفظات، بل مشروطًا بإدارة دقيقة للمخاطر:
خطر التقسيم: التحذير من أن ينجر الصراع بين بورتسودان و”تأسيس” إلى مواجهة وجودية قد تفتح الباب لتقسيم البلاد، وهو سيناريو لا يزال هاجسًا حاضرًا بعد تجربة انفصال الجنوب.
الاستقطاب العرقي: التنبيه إلى خطورة تفاقم الانقسامات في دارفور، التي يمكن أن تتحول من ساحة صراع إلى كيان منقسم بفعل الفتن الأهلية القديمة.
الشرعية الدولية: التشديد على أن بقاء حكومة “تأسيس” مرتبط بقدرتها على تحقيق السلام ووقف الحرب، باعتبار أن الاعتراف الدولي لا يمنح على أساس الشعارات، بل على أساس الأداء.
سيكولوجيا التمثيل السياسي
من زاوية أعمق، يدرك الحزب الجمهوري أن شرعية “تأسيس” تستمد قوتها من تمثيلها لسيكولوجيا التهميش والجراح التاريخية أكثر من استنادها إلى نصوص دستورية.
هذه المقاربة النفسيةالسياسية تفتح مجالًا لنموذج جديد من الشرعية يعتمد على “التمثيل الوظيفي”، حيث يُقاس الحكم بقدرته على تضميد جراح الماضي وبناء عقد اجتماعي جديد.
اللعبة الطويلة للانتقال الديمقراطي
لا يرى الحزب في “تأسيس” نهاية الطريق، بل مرحلة انتقالية في مسار طويل نحو الديمقراطية. لذلك يحافظ على مسافة نقدية تسمح له بالتحول لاحقًا إلى قوة رقابية، ويستعد لسيناريوهات قد تشهد تحالفات متغيرة ومتعددة المحاور.
إنها براغماتية تحاول تجنب الاصطفاف النهائي، وتحافظ على هامش للحركة في المستقبل.
الرسالة إلى المجتمع الدولي
بيان الحزب الجمهوري لم يوجَّه إلى الداخل فقط، بل تضمن رسالة للخارج. فهو يلمح إلى أن معايير الشرعية الدولية التقليدية لم تعد كافية لفهم الوضع السوداني. ويقترح أن تُقاس الشرعية بقدرة أي حكومة على تحقيق السلام والاستقرار
لا فقط بمدى انضباطها بالقوالب الدستورية. بذلك يضع الحزب نفسه في موقع محتمل كوسيط بين القوى الدولية والأطراف المحلية، في وقت يعيد فيه النظام الدولي تقييم مواقفه من الأزمة السودانية.
نحو نموذج جديد للشرعية
في المحصلة، يطرح موقف الحزب الجمهوري تصورًا لشرعية سياسية متعددة المستويات:
شرعية تمثيلية وظيفية: تقوم على تمثيل المهمشين والاستجابة لمظالمهم.
شرعية تدرجية: قابلة للتطور والمراجعة بحسب الأداء.
شرعية تعددية: تعترف بتعدد مراكز القوى باعتباره واقعًا لا استثناء.
شرعية مشروطة: تمنح الدعم بقدر ما تُنجز أهداف السلام والوحدة والعدالة.
بهذا، يتحول ترحيب الحزب الجمهوري بحكومة “تأسيس” من مجرد بيان تأييد إلى مقاربة استراتيجية لإعادة تعريف السياسة في السودان. إنها محاولة لفتح الطريق أمام نموذج جديد للشرعية
أكثر مرونة وواقعية، قد يساعد البلاد على تجاوز أزماتها المتكررة، إذا ما التزمت القوى الجديدة بمسؤولياتها تجاه إنهاء الحرب واستعادة الحكم المدني.
المصدر: صحيفة الراكوبة